على ركام ما تبقى من أنقاضه، يستذكر الشيخ نبيل برزق (43 عامًا) إمام وخطيب المسجد العمري الكبير وسط مدينة غزّة القديمة، أجواء الصلاة بالمسجد قبل أن يحيل الاحتلال حجارته الأثرية إلى ركام متناثر. ويقول برزق لـ"الترا فلسطين": "إنّ المسجد كان يستوعب حوالي 4 آلاف مُصلِّ يتوزعون ما بين المُصلى الداخلي والساحات الخارجية، وفي فترات الازدحام كان يفترش الناس أجزاءً من الأماكن الملاصقة له، خاصة في صلاة التراويح خلال شهر رمضان". مضيفًا: "كما يعد ثاني أكبر المساجد مساحةً بفلسطين بعد المسجد الأقصى، وأولها على مستوى القطاع المدمر".
ويعود تاريخ بناء المسجد العمري، بحسب ما ذكر خطيب المسجد إلى 4 آلاف عام، حين كان معبدًا رومانيًا، ثم تحول إلى كنيسة، قبل أن يُؤسس للمسجد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، مُقدّرًا مساحته بما يقارب من 4500 متر. ويذكر برزق أن المسجد قد وسع، قبل عدة سنوات بإضافة مبنى وقفيّ آخر يشمل 4 طوابق، يضم متوضئًا ومُصلى للنساء، ومركزًا لتعليم القرآن للفتيات.
الاحتلال الإسرائيلي دمّر ما يقرب من 60- 70% من الآثار بشكل كلي، بينما لحقت الأضرار الجزئية بنسب متفاوتة في الآثار كلها في القطاع المحاصر
ومنذ بداية حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، تعرّض المسجد لسلسلة من الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة التي سوته بالأرض، مُحدثةً دمارًا هائلًا لحق بالمنطقة المحيطة به.
ويتحدث برزق عن الاستهدافات، بقوله: "في منتصف تشرين الثاني/نوڤمبر 2023، قصف الاحتلال مئذنة المسجد، وفي نهاية الشهر ذاته استهدف الاحتلال منظومة الطاقة الشمسية للمسجد التي كانت تخدم مرافقه، والتي شلّت حركة العبادة بداخله".
وفي الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2023، قصفت قوات الاحتلال البيت الداخلي للمسجد، وحولت حجارته الرملية الكركية وقبابه وأقواسه المزخرفة إلى أنقاض وركام متناثر.
مسجد السيد هاشم
على بعد كيلومتر واحد من المسجد العمري، يقع مسجد السيد هاشم، في حي الدرج شرق مدينة غزة، على مساحة تقدر بـ 2400 متر مربع، حيث يعد من أبرز مساجد قطاع غزة تاريخيًا. ويعتقد أن المسجد يضم "قبر جد الرسول، هاشم بن عبد مناف، والذي ارتبط اسمه باسم المدينة: غزة هاشم".
ويتوسط المسجد المبني من الحجارة القديمة باحة مركزية مكشوفة، مربعة الشكل ومُحاطة بـ3 إيوانات، وقاعة رئيسية شبه مربعة الشكل، مسقوفة بعقود متقاطعة، وتحتوي محرابًا يتجه نحو القبلة، وجدد منبره عام 1850 في عهد السلطان العثماني عبد المجيد الأول. يعود تاريخ بناء المسجد للعهد المملوكي، وجُدِّد في عهد الدولة العثمانية عام 1930، وبقي محافظًا على طرازه المملوكي.
ورغم تكرر استهدافات المسجد التي بدأت منذ الحرب العالمية الأولى عام 1917، نتيجة قنبلة أصابته، وأتت على أجزاء كبيرة منه، إلا أن إعادة تجديده وترميمه تمت عام 1926. وخلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، نجا المسجد من محاولة قصف مُحتمة، حيث أُنذر بإخلائه تمهيدًا للقصف، قبل أن يدخل وقف إطلاق النار حينها حيز التنفيذ. وفي السابع من كانون الأول/ديسمبر 2023، أغارت طائرات الاحتلال الحربية مستهدفة المسجد بشكل مباشر مما أدى إلى تعرضه لأضرار كبيرة.
كنائس غزة تحت قصف الاحتلال
وفي حي الزيتون شرق مدينة غزة، كان هناك كنيسة القديس برفيريوس الأورثوذكسية الشرقية، ثالث أقدم كنيسة بالعالم، قبل أن تباغتها صواريخ الطائرات الحربية الإسرائيلية في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لتُلحق بقاعاتها أضرارًا جسيمة، وتدمر أجزاء واسعة من مرافقها، أهمها مبنى مجلس وكلاء الكنيسة وقاعة الصلوات الرئيسية.
وعلى مساحة تقدر بـ 216 مترًا مربعًا، تحتضن الكنيسة بداخلها قبر القديس برفيريوس، الذي نشر الديانة المسيحية بغزة، وتوفي فيها، قبل أن يُنقل جثمانه إلى مسقط رأسه في مدينة سالونيك باليونان. ويعود تاريخ بناء الكنيسة التي بُنيت على الطراز البيزنطي للقرن الخامس الميلادي، وتحديدًا عام 406، ولدى الكنيسة شهرة واسعة عند أغلب الغزيين، حيث تتلاصق مع المسجد الأثري "كاتب ولاية".
قصورٌ تحت الركام
لم يكتف الاحتلال بقصف متحف قصر الباشا الشهير في حي الدرج بمدينة غزة، إذ دمرت الجرافات الإسرائيلية ذلك المبنى المكوّن من طابقين، وكان شاهدًا على تلاقي طرز معمارية، وهي المملوكية والعثمانية. إذ يُعدّ القصر النموذج الوحيد للقصور المتبقّية بالمدينة. ويعود بناؤه للعصر المملوكي عام 1260، في زمن الظاهر بيبرس.
وخلال عام 2010، حُوِّل الطابق السفلي من أحد مباني القصر إلى متحف يحوي عددًا من القطع الأثرية الفريدة والنادرة، التي جرى اكتشافها خلال حفريات متعددة، وتعود إلى الحضارات السابقة التي حكمت فلسطين، وإلى حقب زمنية قديمة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، كشفت بلدية غزة عن دمار واسع طال أجزاء من مبانيه جراء قصف إسرائيلي متكرر.
قِلاع في مرمى الاستهداف
كذلك لم تسلم قلعة برقوق في وسط مدينة خانيونس من الاجتياح البري الإسرائيلي الذي استمر لقرابة 4 شهور، تعرضت فيها القلعة الأثرية لدمار كبير في السور الخارجي والقبة والمئذنة التي تزين مدخلها الرئيس.
ويعود تاريخ بناء القلعة للعصر العربي الإسلامي المملوكي، حيث بناها الأمير يونس بن عبد الله النوري الدوادار، بناءً على طلب من السلطان برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية عام 1387، لذا ارتبط اسم مدينة خانيونس، منذ ذلك الحين بمؤسس الخان.
وشهدت الساحة الأمامية للقلعة أحداثًا كبيرة، منها مجزرة عام 1956 التي ارتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي، وراح ضحيتها العشرات من أهالي خانيونس.
حمام السمرة
يرجع تاريخ بناء حمام السمرة في حي الزيتون في مدينة غزة، للعهد العثماني إلى ما يقرب من 700 عام، أعقبها عمليات ترميم وتجديد خلال العصر المملوكي، في عهد الملك سنجر بن عبد الله المؤيدي.
خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعاقبت الاستهدافات للحمام، حتى دُمرته كليًا، فيما جرى أول توثيق للدمار الذي حل به في شهر كانون الثاني/يناير 2024. وتعود تسمية الحمام البالغة مساحته 500 متر مربع، إلى السامريين الذين عملوا بداخله، وهو واحد من 13 حمامًا أثريًا قديمًا في فلسطين.
ويشكل الحمام لأهالي غزة متنفسًا سياحيًا ومزارًا طبيًا، حيث يقصده الشباب والرجال للطب الشعبي البديل، وللاستجمام والتخلص من آثار الإرهاق، عبر استخدام المياه الباردة والدافئة.
موقع البلاخية الأثري
وهو ميناء غزة القديم، يقع في شمال غرب المدينة، وترجع جذور بنائه إلى 800 عام قبل الميلاد، على يد الكنعانيين. ويعد الموقع من أهم المزارات الأثرية في المدينة، وكان مدرجًا على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي، ولائحة التراث الإسلامي، وطاله القصف خلال الحرب الحالية، ودمر أجزاء كبيرة منه.
بيت السقا الأثري
يقع في حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، ويعود تاريخ بنائه إلى بداية العهد العثماني خلال القرن الـ17 الميلادي عام 1661. بُني البيت بطلب من أحمد السقا، أحد كبار تجار المدينة حينها.
ويتميز المعلم الحضاري بقبابه المقوسة التي تتدلى منها الثريات ذات الطابع الأثري القديم، متزينًا بحجارته الرخامية وأعمدته الرومانية، حيث كان يعتبر ملتقى لتجار غزة آن ذاك. وحول البيت إلى مركز ثقافي بعد إعادة ترميمه عام 2014، ثم دمره الاحتلال مجددًا في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
دمار كبير
وبحسب آخر إحصائية صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في تشرين الثاني/نوفمبر، فإن عدد المواقع الأثرية والتراثية التي دمرها الاحتلال بلغت 206 بنايةً وموقعًا أثريًا، و815 مسجدًا و3 كنائس، و19 مقبرة دُمِّرَت بشكل كلي وجزئي من أصل 60 مقبرة في قطاع غزة.
وقبيل الحرب، اُكْتُشِفَت أرض المحاربين أو المقبرة الرومانية شمال غرب مدينة غزة، في منطقة السودانية، من قبل علماء الآثار من فلسطين وفرنسا بعد أن اكتشف عمال البناء الذين كانوا يبنون منازل جديدة مقابر في الموقع. وتم العثور على ما لا يقل عن 134 مقبرة يعود تاريخها إلى الفترة من 200 قبل الميلاد إلى 200 بعد الميلاد، تحتوي على هياكل عظمية سليمة، في ما يُعتقد أنه مقبرة رومانية. اُكْتُشِف تابوتين مصنوعين من الرصاص مزخرفين بشكل معقد، أحدهما يحمل نقوش حصاد العنب والآخر يحتوي على دلافين. وقصف الاحتلال المنطقة بالفوسفور الأبيض خلال الحرب.
بدوره، يقول خبير الآثار أحمد الأسطل، ورئيس مركز إيوان للتراث الثقافي، لـ"الترا فلسطين": "إنّ قطاع غزة مليء بالمواقع الأثرية التي تضرب جذورها في عمق التاريخ لأكثر من 5 آلاف عام، في العهد البيزنطي والروماني واليوناني والفرعوني، وهو ما يدلل على تجذر الهوية الفلسطينية، لذا يسعى الاحتلال جاهدًا لطمسها ودفن ذاكرة الأجيال القادمة".
وأضاف الخبير الأسطل، أن الاحتلال الإسرائيلي دمّر ما يقرب من 60- 70% من الآثار بشكل كلي، بينما لحقت الأضرار الجزئية بنسب متفاوتة في الآثار كلها في القطاع المحاصر.
وبحسب الباحث الأسطل، فإن تعمُّد الاحتلال في استهداف وتدمير المواقع التراثية والأثرية يشكّل جريمة دولية واضحة وفقًا للقوانين الدولية، وخاصة للقانون الدولي الإنساني، واتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح والبروتوكول الثاني للاتفاقية لعام 1999 الذي يحظر الاستهداف المتعمد في الظروف كافةً للمواقع الثقافية والدينية.
ولفت الأسطل إلى أن الحالة الإنشائية لمعظم الآثار بغزة كانت بحاجة إلى عناية وترميم، وهو ما يجعل تضررها من القصف وعمليات التوغل الإسرائيلية أكثر تأثيرًا ودمارًا. وشدد على أن تدمير آثار قطاع غزة لا يقتصر على كونها معالم فلسطينية فحسب، إنما بصفتها العالمية التي سُجل العديد منها في منظمة اليونسكو كتراث دولي، و"هو ما يتطلب تدخلًا دوليًا لحمايتها".