مشهد العمال الفلسطينيين المتجهين فجرًا إلى العمل في المستوطنات الإسرائيلية، بكل ما فيه من أسى وانكسار، يلخص فشل المشروع الوطني الفلسطيني في التحرّر والاستقلال. الفشل لا يخصّ منظمة التحرير وحدها، بل كل ما انبثق عنها بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، لا سيما السلطة الفلسطينية، التي لم تعد قادرة على إطعام ثلاثة ملايين إنسان يعيشون في الضفة الغربية، لكونها واقعة تحت تأثير فساد يأخذ بعدًا مؤسساتيًا بيروقراطيًا منظمًا، ناهيك عن عدم قلقها بعدد لا يقل كثيرًا عن الموجودين في الضفة، هناك في غزة المحاصرة.
يجري تحويل الضفة الغربية إلى بيئة مضيافة للمستثمرين اليهود بفضل "جهود" السلطة الفلسطينية
لم تتمكن التجربة الفلسطينية من صياغة ملامح مشروع تحرري، يقاوم المخطط الإسرائيلي الرامي إلى جذب أكبر عدد ممكن من المستوطنين إلى الضفة الغربية. ما يجعل من المقاومة، أو مجرد التفكير فيها، مغامرة كبيرة في ظل الوجود الكثيف للمستوطنين والمستوطنات في الضفة، ناهيك أن فكرة التحرر الوطني والاستقلال تراجعت بعد سنوات الانتفاضة الثانية المرّة.
ما يجري الآن في الضفة الغربية من عمليات تهويد واستيطان، يقوم على تهيئة الأدوات اللازمة، أي خلق بنى تحتية، لتحويل الضفة الغربية إلى بيئة استثمارية ناجحة للمستثمرين اليهود، تقوم على استخدام اليد الفلسطينية العاملة والمستهلكة، والتي هي بالأساس بحاجة ماسة إلى العمل، ولدينا "مجمع باركان الصناعي" شمال نابلس، على سبيل المثال لا الحصر. كل هذا يتم نتيجة شكل الأجندات المعتمدة لدى السلطة الفلسطينية، والتي تسهل الاحتلال وعليه.
إن طبيعة المشروع الاستطياني الاستثمارية هذه قابلة للتبلور، بالمقارنة مع مكان فلسطيني يعاني من الفقر وعدم الاهتمام ببنيته التحتية، وبات يتراجع لحساب المشروع الاستطياني. أي في المحصلة، الوصول بالفلسطينين، أصحاب الأرض، إلى وضع مشابه بوضع الهنود الحمر، فالذين لم يتعرضوا للإبادة ابتعلتهم المدينة بمنشآتها ومصانعها. المدينة التي قامت على جثمان المكان، أسهمت في الإجهاز على الناجين من المجرزة، لو على المستوى الرمزي في إسكاتهم وإلهائهم بمتطابات الحياة.
في جانب آخر، إن التطرف الصهيوني غير المسبوق في الاستيلاء على الأرض، أو في عمليات حرق تطال البشر والشجر معززةً بما هو ديني.. كل هذا يشير إلى أن إسرائيل تمسك بقرني الثور وتجره إلى صدام ديني حتمي، يشجعها على ذلك غياب الفعل الفلسطيني الرافض للاحتلال، وهو غياب يؤدي غالباً إلى محاذير يصبح الفلسطيني ضحيتها الأولى، تمامًا كما حصل في حرق الطفل دوابشة ووالده في دوما الفلسطينية.
ومن المهم أيضًا، الإشارة إلى أن الحماس الفلسطيني للتسوق من المستوطنات الإسرائيلية، تحت حجة أن السلع هناك أرخص، وما يرافق ذلك التسوق من قبول وتسليم بوجود الاحتلال، ما هو إلا إشارة صغيرة إلى عملية التهويد الجارية، التي تكتسي طابعًا اقتصاديًا.
وسط كل ما يجري، يغيب الخطاب الوطني الفصائلي ذو الطبيعة النقدية، بل ثمة انعكاس، أو استجابة، لسطوة الاحتلال الرمزية على بيئة العمل السياسي، بمعنى أنّ هناك شروطًا غير معلنة يلتزم بها الجميع في العمل الجماهيري السياسي، تقوم على مجموعة من المحاذير والنواهي "لا تكسروا القاعدة، لا تقتربوا من المستوطنات، لا تقتربوا من الأمن الإسرائيلي". هذا الالتزام يغيّب العناصر الجوهرية للصراع، وخاصة العنصر الاجتماعي، ليأخذ الاحتجاج مظاهر الاحتفال الفولكلورية، تمامًا كما يجري في المقاومة السلمية كل جمعة في أكثر من قرية خسفت بالجدار.