"وين رمضان؟"، يتردد هذا السؤال بنبرة حزينة على ألسنة عائلات الشهداء في قطاع غزة، الذين يفتقدون بهجة شهر رمضان وعباداته وطقوسه، فيما الحزن يسكن قلوبهم وما تبقى من منازلهم، وذاكرتهم لم تبرأ بعد من فقدهم للأزواج والأبناء والأحبة.
لم تبرأ ذاكرة عوائل الشهداء من شعور الفقد للأزواج والأبناء والأحبة، ويفتقدونهم اليوم كما يفتقدون معهم بهجة شهر رمضان وعباداته وطقوسه
سلوى أبو سمرة، فقدت نجلها يحيى (27 عامًا)، بنيران قوات الاحتلال الإسرائيلي في 4 شباط/فبراير من العام الماضي، أثناء الاجتياح العسكري البري لمدينة خانيونس. "كان يحيى عمود البيت" بحسب وصف والدته سلوى (52 عامًا)، "ترك أثرًا في ذاكرتنا جميعًا، بنشاطه وحيويته وروحه المرحة وحبه للآخرين وللخير". وبعد أكثر من عام على استشهاده، "نشعر بمرارة وحزن كأنه استشهد الآن وليس قبل عام"، أضافت سلوى.
هذا الشعور المرير بفقد يحيى يطغى على مشاعر والدته تجاه شهر رمضان، فهو الشهر المفضل لدى يحيى، كما تقول، وبعد لحظة صمت عابرة، تساءلت بنبرة يكسوها الحزن: "لكن أين رمضان، وأين يحيى؟"، وتابعت: "راح يحيى وأخذ معه كل حاجة حلوة. الحياة كلها ما لها طعم بغياب يحيى".
وتقول هذه الأم التي أنجبت ستة من الأبناء، إن يحيى هو أوسطهم، و"أكثرهم حرصًا على مساعدة الناس، وفعل الخير، وكان قريبًا جدًا من الله، ويُكثر من الحديث عن الشهادة في سبيل الله، وطلبها بصدق حتى نالها".
وبينما تُعدِّد سلوى مناقب نجلها الشديد يحيى، تساقطت من عينيها دموعًا مسحتها بيديها، وواصلت الحديث عنه بشجن كبير: "كان يحيى رحمه الله يعمل في جهاز الشرطة وفي الوقت نفسه يدرس ويكمل تعليمه الجامعي، ورغم عشقه للشهادة إلا أنه كان طموحًا تجاه مستقبله، ويفكر بإسعادنا كأسرة".
وتُضيف: "كان بارًّا بي وبوالده، حنونًا، يودُّ شقيقاته المتزوجات، وفي رمضان كان يجلب لهن احتياجاتهن، ويحرص على إدخال البهجة والسعادة على كل من حوله".
"كان ليحيى برنامجه الخاص في رمضان من صلاة وصيام، فيحرص على صلاة التراويح والاعتكاف في المسجد، وفي الأيام العشرة الأواخر من الشهر"، يقول والده خالد أبو سمرة، ويتابع: "لم نكن نراه، يلتزم المسجد، ويتصل بنا يحثنا على صلاة الفجر وقيام الليل".
ويصف خالد أبو سمرة نجله الشهيد، بأنه كان "دينامو البيت"، في إشارة منه لنشاطه واعتماد الأسرة عليه في تلبية وتدبير شؤونها اليومية، ثم بقلب يقطر حزنًا أضاف: "نفتقده كثيرًا في رمضان".
الأخ السند
وطوال حديث والديها عن شقيقها الشهيد يحيى، لم تتوقف ندى (20 عامًا) عن البكاء، وبعدما تمالكت نفسها، قالت: "يحيى كان أكبر سند وداعم لنا، وهو مصدر فرح خاصة لنا كشقيقاته، وفي كل مناسبة لنا معه ذكرى مميزة".
وتستذكر ندى كيف كان يحيى سندها في الفترة العصيبة التي كانت تمر بها استعدادًا للتقدم لامتحانات الثانوية العامة (التوجيهي)، حيث كانت تمر بفترة ضغط كبيرة.
وقالت: "كان من يسندني ويشجعني، ويجلب لي الطعام لغرفتي ويشاركني ويحفزني، وكان واثقًا من نجاحي حتى أنه قام بتعليق الزينة قبل إعلان النتائج، ودعا الأصدقاء والأحباب لتناول طعام الغذاء، ابتهاجًا بنجاحي، الذي رأيته في قلب وعيون يحيى قبل أن تعلنه وزارة التربية والتعليم".
وتضيف: "في رمضان كان يوصينا بالصلاة ويسعد إذا وجدنا نقرأ القرآن الكريم، ويقول لنا أريدكن أحسن الناس، وأقرب إلى الله، ويشجعنا على قيام الليل، خاصة ليلة القدر، ويدعو لنا بالخير".
وتتفق ندى مع والدتها بأن يحيى كان "طموحًا في الدنيا، وفي ذات الوقت يتشوق للقاء الله ويستعد لذلك بالسيرة العطرة بين الناس".
مجزرة
وتفيض ذاكرة سجى القرا (27 عامًا) بالكثير من الحزن في شهر رمضان، الذي تفتقد فيه من تصفهم بـ "أغلى وأعز الناس"، وهما شقيقها نظام وطفلته فرح (8 أعوام)، وعبد القادر، وطفله عمار.
استشهد شقيقا سجى وأبناء شقيقها في غارة جوية إسرائيلية استهدفت المنزل الذي يقيمون به في بلدة بني سهيلا شرق مدينة خان يونس، وهي أحد أكثر مناطق المدينة التي تعرضت للاستهداف والتدمير خلال الحرب، خاصة في فترة الاجتياح البري للمدينة.
كان شقيقها عبد القادر عريسًا جديدًا، وزوجته حامل في شهرها الثامن، وتقول سجى: "رزقنا الله بعبد القادر الصغير بعد استشهاد أبيه بشهر".
وبألم كبير، تتحدث سجى عن حال أسرتها التي لم تعد هي ذاتها قبل الحرب، خاصة في شهر رمضان، وتقول هذا "شهر الخير ولمة الأحباب، ولكن الاحتلال قتل لمتنا"، مضيفة أن أثر استشهاد شقيقها وعدد من أبناء الأسرة كبيرٌ على والديها، ولكنهما يحاولان إظهار تماسكهما للحفاظ على استقرار باقي الأسرة ومساعدتها على تجاوز هذه المحنة المؤلمة.
حزنٌ في كل مكان
وبعد استشهاد والده، يقول الشاب محمد علاء بركة (19 عامًا)، إن "الدنيا كلها انقلبت في عيني سوداء" بحسب وصفه، ويضيف في حديثه: "أبي كان سندنا في الحياة، وبدونه ما في أي طعم لأي شيء".
استشهد والد محمد في 18 كانون الأول/ديسمبر من العام 2023، وظل مفقودًا منذ ذلك الحين، حتى عثروا عليه بعد شهور طويلة مقتولاً بنيران قوات الاحتلال في بلدة بني سهيلا شرق مدينة غزة.
ترك الشهيد وراءه أسرة مكونة من 9 أفراد، ويقول نجله محمد: "عشنا شهر رمضان الماضي لأول مرة ولا نعرف شيئًا عن والدي، حيث كان مفقودًا، ويحل علينا شهر رمضان الحالي وقد عثرنا عليه وأكرمناه بالدفن، ولكن الحزن على فراقه لا يفارقنا، ونشعر به في كل تفاصيل حياتنا".
وفيما فقد محمد والده، فإن جاره الشاب العشريني عايد أبو إسحق (23 عامًا) فقد والدته (39 عامًا) وشقيقته (17 عامًا)، في غارة جوية إسرائيلية وقعت في 15 آب/أغسطس من العام الماضي، وغيَّرت حياة أسرته المكونة من 7 أفراد.
يقول عايد: "أمي كانت هي البيت، وهي أساس الحياة، وكنت أشعر بالأمان والحنان طالما هي بخير، وبعد استشهادها راح الأمان وراح الحنان".
ويضيف: "في شهر رمضان كانت أمي تبذل جهدًا كبيرًا ومضاعفًا من أجل إسعادني، وإضفاء أجواء من المتعة والبهجة على الأسرة، تزين المنزل، وتحرص على إعداد الوجبات المفضلة لنا على مائدة الإفطار، وتستيقظ قبل الفجر بساعتين تعد لنا مائدة السحور". وبتأثر كبير يتساءل عائد: "أين رمضان؟ أمي استشهدت وأخذت معها كل الأشياء الحلوة والجميلة".