10-أكتوبر-2024
مكتبة حمزة أبو توهة وما تبقى منها بعد القصف الإسرائيلي

مكتبة حمزة أبو توهة وما تبقى منها بعد القصف الإسرائيلي

قد يرى بعض الناس أن تعامل حمزة أبو توهة مع مكتبته فيه شيء من المبالغة، وقد يضحك أحدهم إن سمع هذا، وكيف لا يبالغ وقد عشق مكتبته التي بناها كتابًا تلو آخر؛ وكأنّ الكتب حجارة سند نفسه بها، وخسرها في قصف إسرائيليّ على منزله خلال الحرب المستمرة على قطاع غزة.

"كأنّه الموت" يصف حمزة أبو توهة شعوره حين قصف الطيران الإسرائيلي مكتبته شمال قطاع غزة. يقول إنّه لم يُصدّق المشهد أوّل الأمر، أعتقد أنّه ضل الطريق. ثم رجع، وأعاد السير مجددًا إلى أن تيقّن من خسارته "فردوسه" 

لأنه كان عنده بمثابة الموت، حسب تعبيره، موضحًا: "حقًا إنه موت، عُدت بعده كأني جسد بلا روح، في البداية لم أصدق المشهد، حدّثت نفسي أن هذا البيت ليس بيتي، وقلت لها أيضًا: "ربما ضللتُ الطريق وأتيتُ إلى مكان آخر، ثم رجعت وأعدت السير أكثر من مرة، وتيقنّت أنه البيت".

حمزة الحريص أشدّ الحرص على طقوس محددة في مكتبته، يطلع الترا فلسطين قائلًا: "قبل دخول المكتبة أغتسل وأتطّيب، وأصفّف شعري بعد أن أتوضَّأ، ثم أدخل إليها، وتنزعني إلى تلك الأفعال سجايا حميدة كان العرب يفعلونها.

تلك الكتب تعني له "صديقًا وأخًا وحبيبًا، أسهرُ مع مؤلفيها، أتحاور معهم، حتى إنني إذا خَفِيَ عليَّ بعض كلامهم زاروني في المنام وشرحوا لي معنى ذلك الكلام".. هذا الوصف أدقّ، ما يجده حمزة أبو توهة من كلمات يحدد فيها طبيعة العلاقة مع ما يسميه "فردوسه المفقود".

حمزة أبو توهة في مكتبته، ومع كتبه التي يحب قبل القصف الإسرائيلي
حمزة أبو توهة في مكتبته، وبين كتبه التي يحب قبل القصف الإسرائيلي

ويخبرنا أبو توهة، أنه قبل الحرب، كان على وشك التغيير من تصميم بيته، كي تشغل المكتبة مساحة أكبر، بعد أن أصبحت الكتب تتوزع في الأرجاء؛ في المطبخ والممرات وغرفة نومه وغرفة الأطفال، ومجموعة كبيرة من كتب لم يعد لها متسع على الأرفف، لذا كان قد حان وقت تثبيت الأرفف الجديدة، لكن صواريخ طائرات جيش الاحتلال، عصفت بالبيت والمكتبة؛ ومزّقت الكتب أشلاءً، يقولها آسفًا.

يعمل حمزة معلّمًا للغة العربية، وكان قُبيل الحرب على مشارف الانتهاء من الدكتوراه، إذ يذيع سرًا، بقوله: "لقد كنت إلى عهد ليس ببعيد أبغض هذه المهنة، حتى أحببتها في العام الذي قبل الحرب، وكثير من الطلاب أحبوا العربية من حبي لها، وأصبحوا ينتظرون الحصة على أحرّ من الجمر".

كُلّها احترقت أو تلفت

في كل عام، كان حمزة يقضي صيفه في القاهرة، حاملًا معه إليها نحو خمسة آلاف دولار، يشتري بها ما يشتهيه من الكتب، ثم يحزمها في صناديق كرتونيّة، ويُودعها في الشحن البري، ثم يرجع إلى غزة، وينتظر أن تصله شحنة الكتب.

يعود إلى ذاك العَهد، بقوله: "كان ذلك اليوم من كل سنة، يوم وصول الكتب إلى بيتي في غزة "هو يوم العيد الذي لا يضاهيه أي يوم عندي مهما بلغ".

حمزة في دار الكتب المصرية
حمزة في دار الكتب المصرية

أسأله عن شعوره حين رأى مكتبته مدمّرة بعد قصف الاحتلال لمنزله في بيت لاهيا، لكنّ حمزة لا يتذكر ذلك الشعور، لأنه كان عنده بمثابة الموت، حسب تعبيره، موضحًا: "حقًا إنه موت، عُدت بعده كأني جسد بلا روح، في البداية لم أصدق المشهد، حدّثت نفسي أن هذا البيت ليس بيتي، وقلت لها أيضًا: "ربما ضللتُ الطريق وأتيتُ إلى مكان آخر، ثم رجعت وأعدت السير أكثر من مرة، وتيقنّت أنه البيت".

الكتب التي بحوزة حمزة احترقت أو تلفت جراء قصف الاحتلال لمنزله
ما تبقّى من مكتبة حمزة أبو توهة التي قُصفت في بيت لاهيا شمال قطاع غزة 

وعن كل كتاب عنده، يقول: "له في القلب منزلة ليست لغيره، كلٌ منها له قيمته وفضله ولذته، وله منه شعور خاص، وكم من المؤلم أن الكتب تقريبًا كلّها احترقت أو تلفت".

ويستطرد في حديثه لنا: "بعد جهد كبير استطعت التعرف إلى بعض الكتب التي ظهر لي شيء من عنوانها على جزء من الغلاف الناجي، ولكن لم أصدِّق نفسي حينما عثرت على مصحفي "مصحف القراءات العشر" الذي فيه سندي المتصل إلى رسول الله بهذه القراءات، كان سليمًا بدرجة جيّدة، فحمدت الله على هذه النعمة".

كانت مكتبة حمزة أبو توهة تضم 20 ألف كتاب أو أكثر 

وبدا أبوه شديد التأثر بقصف البيت وتدميره، ويحكي لنا ولده: "رأيت أبي يبكى حينما رآني أجمع الكتب"، قال لي "هل ستتأثر دراستك في الدكتوراه بعد فقد المكتبة؟"، قلت له: "يا والدي إن العلم في الصدر، فقرّت عينه وقبَّل رأسي".

أصعب من بناء قصر

"هؤلاء أولادي قبل أولادي، تسري مني مسرى الروح"، إلى هذه الدرجة تعلَّق حمزة بكتبه، لدرجة أن ينفق جزءًا من راتبه على أبنائه، وأجزاء منه على مكتبته.

ويفسّر منطقه في هذا: "تعلمت أن نفقة الكتب مخلوفة، وسرعان ما يعوِّضني الله عن ذلك، وقد كنت أخصص من راتبي ما يقارب النصف للمكتبة، وبهذا الإنفاق كان يعلو الشأن وترتفع المرتبة، فهي بضاعته يردّها الله إليّ في أسرع وقت".

يقول حمزة أبو توهة إنه كان يخصص نصف راتبه لمكتبته!
يقول حمزة أبو توهة إنه كان يخصص نصف راتبه لمكتبته! 

أما أطفاله، فيتعاملون مع الكتب بلطف واحتراز، "وقد يُقبلّونها مثلما أقبِّلها، وكانوا يتسارعون لينالوا حظوة دخول المكتبة معي، وكنت أحيانًا، أختار منهم واحدًا ليدخل معي المكتبة"، يواصل أبو توهة حديثه.

أول يوم له أمسك فيه كتابًا، كان نفسه أول يوم له في إقامة أول أعمدة المكتبة، يتذكر تلك الأيام بحنين: "ربما لم يدر في خلدي وقتها أنني أبني مكتبتي، ولكن نهم القراءة ونشوة العلم وتحصيله عملت عندي على استدعاء كتاب تلو آخر، حتى اجتمع لدي من الكتب القَدر الذي يستقلّ بنفسه مكتبة ضخمة غنّاء، وكان أول كتاب أجاذبه ويجاذبني (شرح قطر الندى) لابن هشام عندما كنت في الإعدادية، وهو أحد كتب والدي".

مرّت سنوات طويلة، وما زال يتذكر أول كتاب فتح له بابًا لعلم النحو، عندما وعده أبوه في مرحلة الثانوية إذا ما حصل على الامتياز أن يهديه الكتاب الذي يختاره، وكان "همع الهوامع في شرح جمع الجوامع" للإمام السيوطي وهو الهدية التي أرداها، عندئذ لم يجد أبوه الكتاب في فلسطين، فاشتراه من القاهرة، والمفارقة أن رسالة الماجستير لحمزة كانت في كتاب "همع الهوامع".

وتضم مكتبته عشرين ألف كتاب أو يزيد، ومنها كتبه الستة التي طُبع على غلافها اسمه، ونجا منها كتاباه "البهجة الوفية" و"حاشية ابن هشام الكبرى".

هل من السهل أن يبني المرء مكتبته الشخصية؟

يؤكّد حمزة من واقع تجربته أن بناء المكتبة أصعب من بناء الأمير لقصر مشيّد، ويشرح ما يعنيه: "الأمير حينما يبذل ما يبذل في سبيل بناء قصره لا يؤثر ذلك في ثروته شيئًا، أما أنا فقد كان تكوين المكتبة وشراء الكتب وتحصيلها اقتصاصًا من طعامي وشرابي وقوت يومي الذي أعتاش منه، وكان هذا مقابل التنازل عن كثير من الاحتياجات الأساسية والضرورية". إذ كان حمزة أبو توهة، ونتيجة اهتمامه بالتراث يسعى وراء تحصيل الكتب النادرة والعناوين المفقودة، ما جعله يدفع "لقاء ذلك أغلى ما يملك، وكانت النتيجة ثروة من الكتب لا توجد عادة عند غيره من الناس".

مضيفًا: "حتى إن كثيرًا من طلاب الماجستير والدكتوراة سواء في فلسطين أم في غيرها من الدول العربية كانوا يتواصلون معي كي أوثق لهم بعض المسائل العلمية التي يحتاجونها في دراساتهم، وهي موجودة في الكتب التي عندي، علمًا أنني في مسألة الإعارة كنت شديدًا لا أتهاون، لأني قد أرجع لأي كتاب في أي وقت".

استمرّ حمزة أبو توهة في شراء كتب التراث بعد الحرب
استمرّ حمزة أبو توهة في شراء كتب التراث حتى أثناء الحرب

ويشير إلى أن غالبية كتبه اشتراها من خارج البلاد، لأن مكتبات غزة تفتقد إلى توفر الكتب التراثية التي يهتم بها، وهذا يعود إلى سببين، حسب رأيه: "الأول أن كتب التراث النحوي طلابها قليلون جدًّا، فهي غير رائحة تجاريًّا، والثاني أن غزة محاصرة فلا سبيل إلى توفر الكتب عمومًا"، مستدركًا: "لكن كان لي في باعة الكتب القديمة عزاء وسلوى، وقد حصلّتُ من عندهم قدرًا لا بأس به من هذا النوع من الكتب".

اليوم الأصعب

كان لحمزة "خلٌ ونديم" اسمه معروف الأشقر، اُستشهد في الحرب، بل هو في رُتبة أعلى من "الصديق الحميم"، سألته عما كان يجمعهما، وهذا جوابه: "لا يحلو العلم من غير شريك يقاسمك ثقل العلم وأعباءه وأحماله، تُذاكر معه عويص المسائل وغوامضها، تراجع معه أبواب الكتب وخلافات العلماء وردودهم ومذاهبهم، كان صديقي معروف، رفيق الدرب والعلم، الذي يحفظ لي مقامي فيه، ويعينني في كثير من أموره، سواء بأن يقاسمني أوقاته، أو يبذل معي جهد نقل الكتب، أو الذهاب معي إلى كثير من مجالس العلم".

"بماذا واساك معروف عند تدمير مكتبتك؟".. تدمع ابتسامته شجنًا حين قال: "وعدني حينها أنه سيهدي لي جميع ما يملك من كتب، وهو كان أول من وهب لي كتبه، ومن حظي أني كلما ألَّفتُ كتابًا أهديته نسخة منه، فكان عنده الكتب الستة التي ألفتُها".

بلغت الدعابة بينهما، أن حمزة حين كان يشتري من محل العطارة لصاحبه، يحضّر الأخير له أكياس التوابل، ويوزعها بين العلماء، "شاورما لابن جني، ودجاج للعكبري، وبصل لابن خروف، ورز أصفر لابن خلكان، وسمّاق لابن مالك".

حمزة وصديقه -الشهيد- معروف يتدارسان غوامض اللغة
حمزة وصديقه -الشهيد- معروف الأشقر يتدارسان غوامض اللغة

ويبدو أنه لن يعطي "توءم روحه" حقه مهما قال فيه، معقبًا: "كان معروف رحمه الله شديد الملاطفة لي في علم النحو، وأكثر الناس معرفة بقدري في هذا العلم، يلازمني في السؤال عن مسائله، وكان أيضًا عالمًا بشدة حبي للكتب، وقد يفرح أكثر مني حينما أحصِّل كتابًا أريده".

كل الأيام التي مرت، عاشها الشاب يومًا بيوم، وهو ما يزال صامدًا في بيت لاهيا، نازحًا من هنا لهناك في شمال القطاع، إلى درجة أن تعبير "أصعب يوم" انطبق على جميع أيام الحرب بلا مفاضلة، تبعًا لكلامه.

لا أنسى ذلك الصاروخ الذي يزن ألف كيلو، نزل فجرًا على أحد البيوت القريبة، ومن قوّته سحبني من مكاني خمسة أمتار، بقيت أنتظر حتى الصباح، لأخرج وأرى أين نزل الصاروخ، فإذا به قد اختار بيت صديقي

ويفصح أكثر بخصوص هذا الجانب من قصته: "كل يوم في الحرب له ما يميزه من فصول المآسي، لكن لا أنسى ذلك الصاروخ الذي يزن ألف كيلو، نزل فجرًا على أحد البيوت القريبة، ومن قوته سحبني من مكاني خمسة أمتار، بقيت أنتظر حتى الصباح، لأخرج وأرى أين نزل الصاروخ، فإذا به قد اختار بيت صديقي معاوية، كانت قدم ليان ابنته على باب بيته، وكان الجزء العلوي لزوجته على رأس الشارع، أما ابنه أحمد فقد وجدنا جثته قد طارت إلى أحد الأسطح المجاورة، أما معاوية فقد تبخرت جثته ولم نجد له أثرًا".

وله معلّم اسمه أبو جهاد، وافته المنية في الحرب أيضًا، لم يكن فراقه عابرًا عند التلميذ الذي كان يحلو له تدارس الشِعر معه، إذ يسترسل في الكلام: "وأنا طالب في المدرسة كنت أجلس بين يديه بعد صلاة العصر عند باب بيته في بيت لاهيا، وكان يطرح المسائل ويختبرني فيها، ثم يستفيض في الحديث عنها، حتى تكوّنت عندي على مدار الأشهر، إضافة إلى احتكاكي بشيوخ آخرين وكتب كثيرة قاعدة علمية كبيرة، كنت بعدها أشاركه في الحديث عن المسائل، فكان وجه "العم أبو جهاد" يتلألأ فرحًا بهذا، حتى إذا اشتد العود أخذت أتكلم معه في مسائل دقيقة وجليلة، فكان لا يحب مني أن أسكت، وكان يرمقني بعينين قد يخرج منهما الدمع فَرحًا بأنه يرى طالبه قد أصبح ذا شأن في العلم".

المجازر لها لغة

دمَر الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة معظم مكتبات الجامعات والمكتبات العامة، هذا الاستهداف يقرؤه حمزة بأنه يهدف إلى مسح الوجود الفلسطيني، فإلى جانب الإبادة الجسدية التي يمارسها، يرى أن "لا شيء يخيف إسرائيل مثل العقل الفلسطيني الذي يعيش على العلم، ولا شيء يحفظ العلم وينقله وينشئ الأجيال أعظم من الكتب، فالكتاب والمكتبات عدو أزليّ لكل احتلال، ولكن عزاءنا أن العلم عندنا في الصدور".

شرح كتاب سيبويه بعد القصف الإسرائيلي
شرح كتاب سيبويه، بعد القصف الإسرائيلي

لكن كيف لـ "إسرائيل" أن تهزم شابًا مثل حمزة لا سلاح له إلا الكتاب، إذ تستوقفني هذه الذكرى التي باح بها في صفحته الشخصية: "ما زال (كتاب سيبويه) يُذَكِّرني كيف تشبَّثتُ به وهو مخبَّأ تحت غبار إحدى المكتبات القديمة حينما كنت في السنة الجامعية الأولى، وكان ثمنه يعادل مصروف ثمانية أيام جامعية، فاحتضنته ودفعتُ ثمنه، وبقيت ثمانية أيام أذهب إلى الجامعة مشيًا وأرجع منها إلى البيت مشيًا".

ولا عجب في أن يُسمي ابنه البكر حيّان، حيث لقبّه أحد مدرسي الجامعة بــ "أبي حيّان"، يروي الموقف لـ الترا فلسطين: "كان الأستاذ يقرأ لنا من كتاب في النحو لأبي حيان التوحيدي، فتوقفَ عن القراءة، فأكملتُ له الموضع الذي كان يقرأ منه، وقد كنت أحفظ هذا الكتاب، وحينها أطلق عليّ أبي حيان".

ومن المثير للاهتمام، أن "أبي حيّان" استمر في شراء الكتب في الحرب الضروس، مفسرًا تصرفه الذي قد يستغربه بعضنا: "الشغف في ذلك، والغرام به لا يختلف مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والأحوال، اشتريت إلى الآن ما يقارب خمسين كتابًا، وقرأتها جميعها، وما زلت مستمرًا على هذا النهج".

ولا شيء سيهدئ وجعه إلا أن تعود مائدة الكتاب كما كانت؛ أو أفضل مما كانت عليه، هذا ما يأمله، وقد قطع عهدًا على نفسه بتوسعة نطاق مكتبته وكتبها، حتى تكون مرجعًا عامًّا لكل من يقصدها.

ولا يسمح حمزة للقنوط بالتسلل لفؤاده، بقوله: "الأمل في وجه الله كبير في أن يسخّر لنا من يعيننا على بناء ما نترّقى به في درجات العلم".

ولديه قناعة راسخة، يوضحها: "المكتبة في رأيي لا تكتمل، حتى لو عاش الإنسان مئة عام وكان معه ما لا يُحصى من المال، لأن العلم لا نهاية له، وكلما علمَ الإنسان زاد علمه بجهله، فراح يسعى نحو تتميم النقص، لذا بناء المكتبة ما يزال مع الإنسان حتى القبر".

يعز على حمزة أن يرى كتاب الأمالي بهذه الصورة
يعز على حمزة أن يرى كتاب الأمالي بهذه الصورة

ومن جهة ثانية، تراوده فكرة كتابة كتاب عن الحرب، لكنه يشعر أنه مكبّل، وأن الحرف يضيق عن وصف كثير مما يحدث، "لعل الله ييسر أن أكتب سيرة ذاتية لهذه الحرب، حتى تكون صورة ولو بأحد الأشكال لتصل إلى غيرنا".

وحسب رأيه، أن من عاش هذه الإبادة بالكاد يستطيع أن يصف ما مرّ به، فما بالك بشخص آخر لم يعشها!، مردفًا بالقول: "المجازر لها لغة في إيصالها، لغة لا يفهمها على حقيقتها إلا الضحية نفسه".

من عاش هذه الإبادة بالكاد يستطيع أن يصف ما مرّ به، فما بالك بشخص آخر لم يعشها!

عشقُ "أبي حيان" للنحو كان سببًا فيما هو عليه من حدة وقوة الشخصية في كثير من الأحيان، حسب ظنه، مبينًا: "النحو علم قوي وثقيل وليس سهل المراس، وفيه من الخلافات والنقاشات بين علمائه، ما جعل على لساني بعض الحدة، وفي الوقت ذاته قوّى ملكة التفكير عندي، لأن النحو قياسي في كثير من أموره، وهذا أيضًا جعلني متزنًا في الحرب، شديدًا في بعض التصرفات التي تحتمل التساهل".

ويختم حمزة، بافتقاده لطلابه في هذه الأيام، متمنيًا لو أنه كان بوسعه الاطمئنان عليهم، ومنهم طالب اسمه أيمن، "يا ليته يصادف هذا الحوار الذي ذُكر فيه اسمه، كان أيمن متفوقًا جدًّا، طلق اللسان، ولا عجب في هذا، فهو حافظ للقرآن، كان يحب أن أسأله في الإعراب، وينتشي جدًّا إذا أثنيت عليه، أما زميله جواد فقد كان سمينًا يحب الأكل، لكنه في الوقت نفسه كان منافسًا شرسًا لأيمن، ويضاهيه في بعض صفاته".