رغم الصدمات الّتي تلقّتها الصحفيّة براء لافي، وويلات النزوح، ومخاطر العمل الميدانيّ خلال شهور الحرب الطويلة، إلّا أنّ حبّها لغزّة لم يتأثّر، كما تقول، معتبرة أنّها بـ"تسوى العالم كلّه".
وتقول براء (28 عامًا)، وهي مراسلة متعاونة مع الإذاعة السويديّة، وتحمّل الجنسيّة السويديّة، "الترا فلسطين"، قضيت أكثر من نصف عمري في السويد، وسافرت كثيرًا حول العالم، لكن غزّة، هذه البقعة الجغرافيّة الصغيرة والمحاصرة، هي أفضل مكان في هذا العالم.
صحافيات من قطاع غزة يتحدثن لـ"الترا فلسطين"، عن الفقدان وخسائر الحرب وأيامها الصعبة والارتباط في غزة، وصولًا إلى اتفاق وقف إطلاق النار
وأضافت: كإنسانة تعبت من الحرب، وتراودني نفسي بالسفر من أجل الراحة، ولكن بكلّ تأكيد لن أغيب طويلًا عن غزّة، وسأعود إليها، ولكن قبل كلّ ذلك ما زالت لديّ رسالة مهنيّة ولا بدّ من استكمالها، ولا بدّ لهذا العالم الّذي وقف صامتًا على دمنا النازف لنحو 15 شهرًا، أن يعي حجم الجريمة غير المسبوقة الّتي ارتكبتها قوّات الاحتلال بحقّ مليونين و300 ألف نسمة في القطاع.
تشعر براء بـ"الفخر"، لكون عملها مع الإذاعة السويديّة منذ اندلاع الحرب الإسرائيليّة على القطاع عقب السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 2023، كان له صدى في الشارع السويديّ "البارد إزاء القضايا الخارجيّة"، وقد خرجت المظاهرات المساندة لغزّة، والمندّدة بالجرائم الإسرائيليّة.
الحرب محرقة
كثيرة هي المواقف الصعبة الّتي مرّت فيها براء لافي، الّتي تعتبر الحرب بثقلها وبكلّ ما فيها أصعب تجارب حياتها، وهي الّتي تعايش للمرّة الأولى إحدى الحروب الإسرائيليّة الكثيرة والمتلاحقة على القطاع، وتقول: "كنت أعيش خارج غزّة في كلّ الحروب السابقة، وهذه المرّة الأولى الّتي أعيش تجربة حرب هي الأقسى والأعنف، وكذلك كصحفيّة كنت أعيشها لحظة بلحظة في الميدان".
وأوضحت، خلال الأسبوع الأوّل من الحرب لم نكن نعلم ما الّذي يحدث، أو إلى أيّ حدّ ستستمرّ الحرب، وكنت أعيش قلقًا لا يفارقني خشية على أمّي، و"هي كلّ حياتي ورفيقة روحي.. كانت أيّامًا مرعبة من القصف العنيف، وتدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها، ومع كلّ انفجار كنت أشعر بخوف شديد من أنّ الانفجار التالي قد نكون أنا وأمّي وشقيقاتي من ضحاياه".
وتلقّت براء أوّل صدمات الحرب في اليوم الأوّل، بل في ساعاتها الأولى حسبما تروي لـ"الترا فلسطين"، باستشهاد ابن خالها وهو المصوّر الصحفيّ إبراهيم محمّد لافي، وتضيف: "كان شابًّا واعدًا في بداية مسيرته الصحفيّة، وقد استشهد صبيحة السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، وكان خبر استشهاده أوّل صدماتنا".
وفي أيّار/مايو من العام الماضي عندما كانت براء وأسرتها تتهيّأ للنزوح عن مدينة رفح في جنوب القطاع، عشيّة الاجتياح البرّيّ الإسرائيليّ، دوى انفجار كبير هزّ أرجاء المنطقة في حيّ الجنينة شرق المدينة، وتقول براء: "فوجئنا أنّه بيت خالي جمال، واستشهد أربعة من أبنائه، 3 ذكور وابنته البكر آسيا الّتي تركت وراءها طفلتين جميلتين".
ونزحت براء وأسرتها من مدينة رفح إلى مدينة دير البلح في وسط القطاع، وأمضت فيها ثلاثة أشهر، قبل أن تضطرّ للنزوح إلى منطقة بين مدينتي رفح وخانيونس، تقول إنّها "نائية، ولا تتوفّر بها مقوّمات العمل"، الأمر الّذي أجبرها لأوّل مرّة في حياتها للبعد عن والدتها وشقيقتيها لأيّام طويلة بحكم عملها الصحفيّ، إذ تضطرّ إلى النوم في خيمة خاصّة بالصحفيّات قبالة مجمّع ناصر الطبّيّ.
وتصمت براء، وهي تروي بكثير من التأثّر تجربتها الشخصيّة خلال الحرب، وبتنهيدة عميقة، تقول: "خسرت الكثير من الناس الليّ بحبّها، أحدهم ابن خالتي محمّد وله مكانة في حياتي، وكان صديق أسرتنا المقرّب منذ عودتنا من السويد إلى غزّة، وكان رفيقنا في الرحلات، واليوم رغم حبّي الشديد للبحر، إلّا أنّني عندما أمرّ به أتذكّر محمّد وأبكي بشدّة".
"استشهاد السند"
قبل نحو شهر استشهد والد الصحفيّة دعاء خالد، وانتشرت لها مقاطع مصوّرة مؤثّرة، وهي تجلس أمام جثمانه المسجّى في مجمّع ناصر الطبّيّ في مدينة خانيونس، وترثيه وتبكيه بحرارة، وتقول لـ"الترا فلسطين": "لم يكن مجرّد والد، كان حبيبي وسندي في هذه الدنيا".
دعاء (26 عامًا) تنتمي إلى أسرة من 12 فردًا، نزحت من مدينة رفح عشيّة الاجتياح الإسرائيليّ في أيّار/مايو من العام الماضي، وتقييم في منطقة مواصي خانيونس، وترى في استشهاد والدها أكبر صدمات حياتها، والأعنف خلال هذه الحرب، الّتي تعرّضت فيها لكثير من المواقف الصعبة، وكادت تفقد حياتها عندما نفّذ الاحتلال غارة على منزل كانت في داخله، ومرّة عندما أطلقت مسيرة كوادكوبتر النار عليها خلال عملها في الميدان.
لكنّ دعاء ترى أنّ كلّ المواقف الصعبة والمخاطر لا تعادل فقدها لوالدها، وتقول: "كان خبر استشهاده ثقيلًا جدًّا، ولم أحتمله، وخرجت أركض بلا إدراك لعدّة كيلومترات من المواصي حتّى مجمّع ناصر، وأنا غير مصدّقة للخبر، وأقول في نفسي: لعلّه كذب أو تشابه أسماء".
وبعد استقرار الأمور إثر اتّفاق وقف إطلاق النار، وتمكّنها من العودة لمدينة رفح، تخطّط دعاء لنقل جثمان والدها من خانيونس ودفنه في مقبرة بمدينة رفح، ليكون قريبًا منها، وتقول: "استشهد نازحًا، ولا أريد لقبره أن يبقى بعيدًا عنّي.. أريد روحه حولنا".
نجاة من الموت
ونجت منى بكر (38 عامًا) وهي صحفيّة متعاونة مع إذاعة بي بي سي، من الموت، عندما تسلّلت وحدات خاصّة إسرائيليّة في مخيّم النصيرات وسط القطاع، قبل بضعة شهور، لتخليص محتجزين إسرائيليّين في قطاع غزّة، وخلال الحدث ارتكبت مجزرة مروّعة أوقعت عشرات الشهداء والجرحى. كانت منى تعمل في الميدان عند وقوع هذه المجزرة، وعانت من أجل الاحتماء من النيران، ووصلت بصعوبة بالغة إلى أسرتها، وتقول: "كان القصف هستيريّ".
منى متزوّجة ولديها أربعة أبناء، ومنذ مغادرتها منزلها في مدينة غزّة خاضت تجربة النزوح القسريّ ستّ مرّات، وأصعبها عليها كانت في مدينة رفح الّتي خرجت منها بدون والدها الّذي تصفه بـ"أعزّ شخص بحياتي"، إذ توفّي ودفن خلال رحلة النزوح.
ومرّت منى بالكثير من المواقف الصعبة خلال عملها بالميدان، وفي أثناء النزوح المتكرّر من مكان إلى آخر، كما تقول، وتتابع: "أتمنّى لو يتوقّف شلّال الدم إلى الأبد ويلتئم جرح غزّة النازف، وأعود إلى بيتي في مدينة غزّة، وأعيد إعماره من جديد، واملأه بالحبّ بعدما دمّره الاحتلال، ونعيش بأمان وسلام مستدام".
ورغم أهوال الحرب، إلّا أنّ لدى منى من العزيمة والإصرار لاستكمال عملها الصحفيّ، وتقول: "سأستمرّ؛ لأنّ الميدان ملغم بالقصص والحكايات والقضايا الّتي لم ترو بعد".
استشهاد الشقيق
ولا تتردّد صافيناز بكر اللوح (34 عامًا)، وهي مراسلة تليفزيونيّة، في وضع استشهاد شقيقها أحمد وهو صحفيّ متعاون مع قناة الجزيرة، كأصعب خسارة تلقّتها خلال الحرب، وقالت: "رغم المواقف الصعبة والخطرة الكثيرة الّتي تعرّضنا لها كصحفيّين وصحفيّات في الميدان، إلّا أنّ استشهاد أحمد كان أصعب اللحظات، ونزل عليّ خبر استشهاده كالصاعقة".
وبإحساس الشقيقة الأكثر قربًا منه، تروي صافيناز لـ"الترا فلسطين"، أنّها كانت على رأس عملها الميدانيّ في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح عندما وصلها خبر قصف مقرّ الدفاع المدنيّ في النصيرات، و"فورًا وقع في قلبي إحساس أنّه أحمد، وأخبرت من حولي، ولكنّهم لم يصدّقوا، والكثير منهم زملاؤه وأصدقاؤه، ولكن لم يمض وقت طويل حتّى تأكّد الخبر الصادم".
وكان أحمد بالنسبة لصافيناز "السند والحضن الدافئ بعد وفاة والدتهما"، ومع أنّها "تبدي الكثير من التسليم بقضاء اللّه على فقده"، لكنّها تبكي كلّما تذكّرته، وأوّل ما فعلته في اليوم الأوّل لوقف إطلاق النار هو زيارة قبره.
وتنتظر صافيناز توقف الحرب تمامًا، كي تتمكّن مع أسرتها من الوصول إلى مقبرة جحر الديك القريبة من السياج الأمنيّ الإسرائيليّ، من أجل إعادة دفن جثّة والدتها، الّتي خرجت من قبرها، جرّاء قصف إسرائيليّ مكثّف على المقبرة بدايات الحرب تسبّبت في تناثر الجثث من القبور.
ألم الفقد
وكان للفقد وقّعه المؤلم في نفس الصحفيّة ولاء أبو جامع (29 عامًا)، وقالت لـ "الترا فلسطين": كانت أختي الصغيرة على موعد مع السفر إلى الضفّة الغربيّة للعلاج من السرطان في 9 تشرين الأوّل/أكتوبر، ولكنّ الحرب اندلعت قبل ذلك بيومين، وتوفّيت وهي تتألّم، وقد حرمت من حقّها الطبيعيّ والإنسانيّ في تلقّي العلاج.
بدأت ولاء الحرب بهذا "الحدث الصعب"، ومن ثمّ توالت الأحداث والمواقف الصعبة، حيث اضطرّت وأسرتها للنزوح من منزلها في شرق مدينة خانيونس، وعندما عادت إليه بعد انسحاب قوّات الاحتلال من المدينة، وجدته مدمّرًا.
وتوالت الأيّام في حياة ولاء، وهي تلاحق قصص الموت والدمار في الميدان، وكانت جزءًا من إحدى هذه القصص، باستشهاد أوّل حفيد لأسرتها، وهو ابن شقيقتها الطفل محمّد سمحان (5 أعوام)، جرّاء استنشاق غازات وانبعاثات صواريخ سقطت على مقربة منه وأسرته خلال إحدى مرّات النزوح المتكرّرة من المناطق الشرقيّة في خانيونس.
وبألم شديد، قالت ولاء، إنّ "محمّد هذا الطفل الصغير وبجسده النحيل، خضع لثلاث عمليّات جراحيّة، قبل أن يسلّم الروح، ويلتحق بقافلة طويلة من الشهداء الأطفال والرضّع، وحتّى الأجنّة في بطون أمّهاتهم".
وتشعر ولاء بفرحة النجاة الممزوجة بالقلق من تجدّد الحرب في أيّ لحظة، لكنّها تقول لا معنى للحياة من دون فسحة الأمل، وتتمنّى أن تضع الحرب أوزارها تمامًا، وتبتسم وهي تفصح عن أمنيتها البسيطة بعد شهور الموت والحصار، قائلة: "بتمنّى أعمل وليمة كبيرة لأسرتي تنسيهم ويلات الحرب والمجاعة".
وطوال الحرب الإسرائيلية على غزة، سقط 205 شهداء من الطواقم الصحفية برصاص وقصف الاحتلال، بالإضافة إلى 48 حالة اعتقال للصحفيين ممن تأكد اعتقالهم.