عندما دخل ضياء الأغا سجون الاحتلال الإسرائيلي كان فتى يافعًا لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، ليتحرر من قيود الأسر بعد 33 عامًا، بجسد هزيل وبشعر يكسوه الشيب.
ضياء الأغا، قضى 33 عامًا في السجون الإسرائيلية وتعرض للتعذيب، ليُفرج عنه في 2025 ضمن صفقة التبادل. رغم معاناته، يصف تحرره بـ"ميلاده الثاني" ويشعر بفرحته بينما قلبه مع آلاف الأسرى الآخرين.
في العام 1992 اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي الفتى ضياء، بتهمة تنفيذ عملية فدائية استخدم فيها معولًا زراعيًا وقتل به ضابطًا إسرائيليًا من وحدة "سييرت متكال" يُدعى "ميتسا بن حاييم" وهو أحد مستوطني "غوش قطيف"، إحدى المستوطنات التي كانت مقامة على أراضي قطاع غزة، قبل الانسحاب الإسرائيلي عام 2005.
خضع هذا الفتى في حينه لتحقيق قاس ذاق خلاله ويلات التعذيب جسديًا ونفسيًا، قبل أن تحكم عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي بالسجن المؤبد مدى الحياة، ليتنقّل خلال العقود الثلاثة الماضية بين مختلف السجون، في تجربة يصفها لـ "الترا فلسطين" بأنها "قاسية"، ولكنّها لم تُفقده الأمل بالحريّة وكسر قيود السجن والسجّان.
الحرية .. ميلاد جديد
مع نسمات فجر الخميس 27 شباط/فبراير 2025، تحرر ضياء، وقد كان أحد الأسرى المحررين ضمن الدفعة السابعة من صفقة تبادل الأسرى في مرحلتها الأولى، ضمن اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيليّ.
هذه اللحظة التي طال انتظارها لعقود طويلة يصفها ضياء بأنّها "ميلادي الثاني"، ويقول: "أصبح لي عيدين للميلاد، الأول في 19 نيسان/ أبريل عام 1975، والثاني يوم حريّتي في 27 شباط/فبراير عام 2025".
"الانعتاق من قيود السجن والسجان لحظة لا تضاهيها لحظة فرح وسعادة أخرى (..) إنها عودة إلى الحياة مرّة أخرى، نحن أموات داخل السجن، والاحتلال يكاد يعدُّ علينا أنفاسنا ويحرمنا أبسط حقوقنا"، يصف ضياء تجرية الاعتقال المريرة.
المُحرر ضياء الأغا: "كنا أمواتًا داخل السجن.. والاحتلال يعدُّ أنفاسنا"
ومرّت الأيام الخمسة الماضية على ضياء ورفاقه المحررين في الدفعة السابعة "ثقيلة وبطيئة". يقول: "عندما أنزلنا جنود الاحتلال من الحافلة وأعادونا إلى السجن والزنازين، شعرت بضيق شديد في صدري، ومرّت الدقائق علينا وكأنها سنين، في انتظار انفراج الأزمة".
وكان من المقرر إطلاق هذه الدفعة من الأسرى المحررين يوم السبت الماضي، بيد أن دولة الاحتلال أعاقتها، بدعوى الاحتجاج على ما اعتبرتها "المراسم الاستفزازية والمهينة" التي تنظمها الفصائل في غزة خلال تسليم الأسرى الإسرائيليين لديها للجنة الدولية للصليب الأحمر.
وخلال آخر 15 عامًا له في السجون، وضعت دولة الاحتلال "فيتو" ورفضت إطلاق سراح ضياء الأغا (الفالوجي) في سياق مفاوضات تسوية سياسية مع السلطة الفلسطينية أفرجت بموجبها عن 3 دفعات من الأسرى القدامى، وكان من المفترض أن تشمل الدفعة الرابعة في العام 2014 اسم ضياء لكنّها تنصلت من التزاماتها.
وسبق ذلك أن رفضت في العام 2011 إطلاق سراحه ضمن صفقة "وفاء الأحرار/شاليط"، لتبادل الأسرى مع حركة "حماس"، والتي تحرر بموجبها 1027 أسير وأسيرة مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ليبقى ضياء في السجن كأقدم أسير من غزة معتقل منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، وتطلق عليه الهيئات المحلية الداعمة لحقوق الأسرى لقب "عميد أسرى قطاع غزة".
تعذيب جسدي ونفسي
انقضت سنوات السجن، وخرج ضياء من إلى الحرية، غير أن فرحته بالتحرر لم تنسه رفاقه الذين خلّفهم وراءه في السجون والمعتقلات، ويقول: "لن تكتمل حريتي إلا بحرية آخر أسير في سجون الاحتلال".
ضياء الأغا عن الأوضاع في السجون خلال الحرب: "السجون تحولت إلى مقابر.. يقتلوننا ألف مرة في اليوم"
وبحسب "هيئة شؤون الأسرى والمحررين" فإن زهاء 10 آلاف أسير فلسطيني، بينهم نساء وأطفال وكبار سن، ويعاني الكثير منهم من أمراض مزمنة وخطيرة، يقبعون في سجون الاحتلال، في ظل ظروف بالغة القسوة والسوء.
وقد زادت السجون سوءًا بعد الحرب الإسرائيلية على القطاع في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023، ويصفها ضياء بأنها تحولت إلى "مقابر"، تمارس فيها قوات الاحتلال أبشع صنلوف التعذيب والتنكيل بحق الأسرى.
ويقول إن "الـ 16 شهرًا الأخيرة كانت الأشد قساوة على الأسرى، ذقنا خلالها ويلات التعذيب النفسي والجسدي، والحرمان من كل شيء، حتى رؤية الشمس.. كان الاحتلال يقتلنا في اليوم ألف مرة".
وبسبب هذا التعذيب توثّق الهيئات المدافعة عن حقوق الأسرى استشهاد 60 أسيرًا من الأسرى الذين اعتقلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء حربه غير المسبوقة على القطاع.
وبحسب ضياء فإن دولة الاحتلال منحت مصلحة السجون صلاحيات واسعة للتعذيب والتنكيل بالأسرى، والحرمان من النوم والطعام، وحتى الحمام، حتى خسر كل أسير من 30 إلى 50 كيلوغرامًا من وزنه، بسبب قلة الطعام وسوء التغذية.
المقاومة وتبييض السجون
ويثني ضياء على تضحيات أهالي غزة، وما وصفه بـ "الصمود الأسطوري" للمقاومة الفلسطينية، التي أوفت بعهدها ووعدها، متمنيًا أن تُكلل صفقات التبادل القادمة بتبييض سجون الاحتلال من كافة الأسرى، وبينهم الكثير مهددون بفقد حياتهم والالتحاق بركب شهداء الحركة الأسيرة.
وكان ضياء من بين مئات الأسرى الذي أقلّتهم حافلات اللجنة الدولية للصليب الأحمر من معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية في جنوب شرقي القطاع، إلى مستشفى غزة الأوروبي في مدينة خانيونس، وقد بدت خطواتهم ثقيلة ولا تكاد سيقانهم تحملهم من شدة التعب والإعياء.
وكان في انتظار الأسرى طاقم طبي متخصص من المستشفى، أخضع الأسرى لفحوص طبية للاطمئنان عليهم وتقديم العلاجات لهم. ويقول مدير التمريض في المستشفى الدكتور صالح الهمص لـ "الترا فلسطين": إن جميع الأسرى كانوا في حالة إعياء شديدة جرّاء ما تعرضوا له من تعذيب وضرب وتنكيل وسوء معاملة.
وأعطى الأطباء في المستشفى جميع الأسرى أدوية مضادة للأمراض الجلدية، حيث يستشري "مرض الجرب" في سجون الاحتلال، وأصاب الغالبية منهم، بسبب قلة النظافة والقيود التي يفرضها السجانون على استخدام المياه للاستحمام، بحسب عميد أسرى غزة.
رمضان غير
وتحاملت أم ضياء الأغا (75 عامًا) على أوجاع جسدها، وآلامها وأمراضها التي أصيبت بها على مدار سنين طويلة انتظرت فيها حرية ضياء، وكانت في مقدّمة مستقبليه، وتقول لـ "الترا فلسطين": "والله كنت بدي الريح تحملني وترميني في حضن حبّة عيني ابني ضياء".
الأم السبعينية واحدة من أبرز أمهات الأسرى في القطاع، ودائمة المشاركة في كل الفعاليات المساندة لحقوق الأسرى في سجون الاحتلال والمطالبة بحريتهم، ورافقت وفودًا فلسطينية رسمية شاركت في فعاليات بدول عربية وأجنبية لفضح ممارسات الاحتلال بحق الأسرى.
وبكثير من التأثر تقول أم ضياء: "الحمد لله إني عشت ليوم حرية ضياء.. كنت خايفة أموت قبل ما أضمّه لحضني"، غير أنها لا تنسى من لا يزالون وراء قضبان السجون، وتضيف: "كلهم أولادي، ويا رب يعجّل لهم بالفرج ويجمع كل أم بابنها وكل زوجة بزوجها، ويعيشوا نفس فرحتي بحرية ضياء".
وللمرة الأولى منذ 33 سنة، ستحظى هذه الأم بشهر رمضان برفقة ضياء الذي غاب عن المائدة الرمضانية طوال هذه السنوات. وبالنسبة لأم ضياء فإنّ "رمضان هذه السنة غير ومختلف وله طعم آخر (..) كل سنة كان يمر علي رمضان بذكريات مؤلمة وضياء أسير في السجن"، وتبتسم وهي تنظر إليه: "بدي أطبخ له بايدي كل الأكلات اللي بحبها، وبدي أطعميه كويس عشان يسترد صحته وعافيته".