لم يكد ينقضي العام حتى انقضت معه التقديرات الإسرائيلية في المدى القريب، عن رجل حماس القويّ ورئيسها في قطاع غزة، يحيى السنوار. ففي تقرير سابق رأى آفي ديختر، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنسيت، أن انتخاب السنوار رئيسًا لحماس في غزة، هو بمثابة تبدُّد للخط الرفيع الفاصل بين المستويين العسكريّ والسياسي في الحركة، وأنّ قيادة حماس حينما اختارت السنوار، فهي إذًا ترى الأمور الآن عبر الصواريخ، والأنفاق، وعمليات الخطف. أحدُ المعلّقين ذهب إلى القول أن انتخاب السنوار هو بمثابة تحويل القطاع إلى برميل للبارود معدّ للانفجار في أيّ لحظة.
السنوار.. رجل المصالحة الحديدي
إلّا أنّنا اليوم ما زلنا نتابع ما يجري في قطاع غزة، بين مصدّقٍ ومُكذّب، وبين متفائل ومتشائم، كأننا جميعًا، أصبحنا المُتشائل في رواية إميل حبيبي. ورجلٌ واحدٌ في فلسطين، يبدو أنّه يعرف إلى أين ستؤول الأمور، لأنّه على ما يبدو، يمسكُ بزمامها جيّدًا، ويقودُها إلى حيثُ يشاء، وكما يعتقد الكثيرون، أيضًا، إلى حيثُ يشاء أهالي قطاع غزة ويأملون.
رجلٌ واحدٌ يبدو أنّه يعرف إلى أين ستؤول الأمور، لأنّه على ما يبدو، يمسكُ بزمامها جيّدًا
هو يحيى السنوار، الرجل الذي قضى في السجون الإسرائيلية 24 سنة، وخرج منها إثر صفقة "وفاء الأحرار" مقابل الجنديّ الإسرائيليّ "جلعاد شاليط". ليُنتخب في مطلع 2017 رئيسًا لحركة حماس في قطاع غزة؛ خلفًا لإسماعيل هنية الذي خلف خالد مشعل في رئاسة المكتب السياسيّ.
وبالنسبة للكثيرين، وخلال أيامٍ معدودات، أصبح السنوار رجل المصالحة الأقوى في قطاع غزة، والأكثرُ شعبيّة أيضًا. فما زالت كلماته تتردّد على مواقع التواصل الاجتماعي وبين الناس، تلك التي وعد فيها بكسر رقبة كل من يحاول عرقلة المصالحة من أبناء حماس أو غيرها. وقد بدا الرجل في خطاباته قريبًا من هموم الناس، كما يرى البعض، وحقيقيًا في تمثيلهم وتمثيل تطلعاتهم، والأهمُّ من هذا كلّه: أنّه قادر على تنفيذ ما يقول. والمراقب للتصريحات والبيانات الصحفيّة الصادرة عن حركة حماس ومسؤوليها وعناصرها، يستطيع تلمُّس ذلك الالتزام بتحقيق المصالحة الذي يعدُ فيه السنوار في خطاباته.
غزة أولًا.. ومن ثم سلاح المقاومة
لم تكد تنقضي 48 ساعة على بدء خطوات المصالحة الفلسطينيّة، حتى أثار الرئيس محمود عباس قضيّة السلاح الشرعي وغير الشرعيّ، عندما صرّح خلال حوار تلفزيوني، أنّه لن يكون في قطاع غزة أو الضفة الغربية إلّا سلاح واحد، هو "السلاح" الشرعي الخاص بالأجهزة الأمنيّة التابعة لحكومة التوافق. وقد تبع هذا التصريح، تصريح آخر لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، اسماعيل هنية، قال فيه: "السلاح سلاحين، سلاح الحكومة والشرطة وأجهزة أمن الحكومة، وهذا بالتأكيد سلاح واحد، وهناك سلاح المقاومة". وفيما عدا هذا التناقض البسيط، ولكن الواضح والصارخ بين التصريحين، لم يكن هناك أي اشتباك إعلامي بين طرفيّ المصالحة، فيما يشير إلى حالة من ضبط النفس يمارسها الطرفان فيما يتعلّق بالقضايا الحسّاسة بينهما.
ويبدو أن فلسفة حماس، وربما فلسفة السنوار من ورائها، أن قطاع غزة، وقضاياه الحياتية العاجلة والآنية، تأتي أولًا، ومن ثم القضايا الأخرى وعلى رأسها سلاح المقاومة. وهذه فلسفة تستطيع حماس، بعد عشرية الانقسام، على التعايش معها. فهي كانت موجودة لسنوات طويلة من قبل الانقسام وكانت تملك سلاح المقاومة إلى جانب فصائل المقاومة الأخرى، وهي تستطيع ضمن أطر سياسيّة الوصول إلى تفاهمات مع السلطة، بالأساس عن طريق فرض الأمر الواقع، أن تتوصّل إلى تفاهم بخصوص سلاح المقاومة، على الأقل، أن تحتفظ به وإلى جانبها فصائل المقاومة في قطاع غزّة. هناك عدة عوامل تساعد على نشوء هذا التفاهم واستمراريته في المدى البعيد، وأهمُّها، حاجة إسرائيل لأعدائها.
إسرائيل لا تتخلّى عن أعدائها بسهولة
هناك ما هو أساسيّ في العقيدة الصهيونية حول المحيط الإقليمي والجغرافي بما يتعلّق بإسرائيل، وهو عقدة الأغيار. وهذه العقدة، عقدة الأغيار، تتألّف من افتراض أساسي حول الهويّة اليهوديّة أوّلًا، ومن ثمّ الهويّة الصهيونية ثانيًا، بوصف الهويّة اليهوديّة، كمرتكز أساسي داخل الأيديولوجيا الصهيونيّة، لا تقوم إلّا على وجود الأغيار بوصفهم أعداء للشعب اليهودي، بناءً على اعتقادات دينية وأخرى عرقيّة. وبكلمات أخرى، ومحاكاة للواقع، فإنّه لو لم يكن هناك فلسطينيّون في فلسطين حقًا، أو لَو تمّ طرد الفلسطينيين جميعًا من فلسطين، لاخترعت الصهيونيّة الفلسطينيّ عدوًّا، لأنّ القوميّة اليهوديّة لا تقوم إلَّا بتمايز ذاتيّ قومي عرقي في مقابل وجود الآخر، الذي هو متجذّر في العقيدة اليهوديّة التوراتيّة والأيديولوجيا الصهيونية، كـأغيار. في وجودهم يتمّ تمييز اليهوديّ، وبناءً على التضادّ معهم، يتم تعريف اليهوديّ، وبناءً على التّهديد الذي يشكّلونه، تُبنى القوّة العبريّة الدفاعيّة باستمرار ويتم تغذيتها وعبادتها وحتى تقديسها، وبوجودهم تتحقَّق حالة عسكرة المجتمع الإسرائيلي بصورة دائمة.
لا يبدو السنوار مختلفًا عن ياسر عرفات الذي كان عليه أن يتخبّط في الظلام كي يستطيع أن يُوجد حركةً ما في مسار القضيّة
هذا ليس تحليلًا مُطلقًا لما هو عليه المجتمع الصهيوني، لكن ملاحظة الدعاية الصهيونية حول إيران، وحزب الله في جنوب لبنان، وحتى التمسُّك الصهيوني باحتلال الضفة الغربية، يؤشر إلى أهميّة العدو بالنسبة للمجتمع الصهيوني. وبناءً على هذا، فإن وجود سلاح المقاومة في قطاع غزة معطلًا، أو مشتبكًا بين حينٍ وآخر، ليس مسألة ذات أهمية كبرى بالنسبة لإسرائيل إذا كان الثمن مقامرة مستقبلية بحلّ المسألة الفلسطينيّة نهائيًا.
في النهاية، لا يبدو السنوار مختلفًا عن ياسر عرفات في زمنٍ ماضٍ. إذ كان على ياسر عرفات، أن يتخبّط في الظلام أحيانًا كثيرة، كي يستطيع أن يُوجد حركةً ما في مسار القضيّة الفلسطينيّة ككل. وكذلك، يبدو السنوار، وحماس من خلفه، كالرئيس الراحل ياسر عرفات المتخبّط في الظلام، إذ هناك ضرورة لوجود حركة سياسيّة، أو بكلمات أخرى، هناك ضرورة لإعادة بعث السياسة في قطاع غزة بعد موتها فيه لعشر سنوات، ولو كان الثَّمُن بعض التنازلات المبالغ بشأنها في ظلّ حالة جمود قاتلة لا تبدو أنّها تقود إلى أيّ شيء.
اقرأ/ي أيضًا: