تقارير

غزة تواجه العطش والخوف: عين على الماء وأخرى على البيوت المهددة بالتدمير

8 أكتوبر 2025
غزة تواجه العطش والخوف: عين على الماء وعين على البيوت المهددة بالتدمير
رفيف اسليم
رفيف اسليمصحفية فلسطينية

مع اقتراب الشمس من المغيب، ينقل غسان الدلو عينَيه من السماء إلى صنبور المياه، على أمل أن تنفجر من الخط كما انفجرت زمزم للسيدة هاجر، بينما تتردّد تراتيل السيدات والأطفال من حوله. فالمنزل لم يرَ نقطة مياه واحدة منذ أسبوع. وفجأة بدأت النقاط تنساب شيئًا فشيئًا، وأخذ يصرخ: "المَيّ اجت! الحقوا عبّوا كم سطل قبل ما تقطع!"، قبل أن يقطع فرحتهم حزامٌ ناريٌّ أسكت الجميع.

معاناة أهل مدينة غزة ليست في الحصول على المياه المالحة فقط، بل في مياه الشرب أيضًا، إذ باتوا يشربون مياهًا ملوّثة غير مفلترة بشكل سليم، تسبب لهم ألمًا حادًا في البطن ومغصًا لا يفارقهم

يقول الدلو: "لم تترك الحاجة مجالًا للخوف في قلوبنا، فبعد أن سكت الحزام الناري، اصطفّ سكان العمارة في طابور، وبدأ كلٌّ منهم نقل المياه عبر الجالونات والأواني إلى منزله، والطائرات المسيّرة تحيط بنا من كلّ اتجاه"، مشيرًا إلى أن خمسة طوابق وسكّانها والنازحين داخلها استغرقوا وقتًا طويلًا وهم ينقلون المياه من الأسفل إلى الطوابق العلوية.

استمرّ ذلك المشهد حتى الساعة الثامنة والنصف مساءً، كون المياه في خطّ البلدية كانت كخيط، بحسب وصف الدلو. وخلال عملية نقل المياه، استهدفت الطائرات الإسرائيلية المنزل المقابل للعمارة، فما كان من الجميع إلّا أن انبطحوا أرضًا. يقول الدلو إن شظية كادت تشقّ رأس أخيه نصفين لولا أنه أنزله إلى الأسفل. وعندما لم يستجيبوا، صوبت الطائرات المسيّرة طلقاتها تجاههم، ففهموا أنها رسالة أخيرة للدخول إلى المنزل.

"لا مياه حلوة ولا مياه مالحة"، تقول ريهام السكني. فمعاناة أهل مدينة غزة ليست في الحصول على المياه المالحة فقط، بل في مياه الشرب أيضًا، إذ باتوا يشربون مياهًا ملوّثة غير مفلترة بشكل سليم، تسبب لهم ألمًا حادًا في البطن ومغصًا لا يفارقهم، وسط مخاوف مما قد تفعله تلك الملوّثات بأجسادهم على مدار السنوات القادمة.

وتكمل السكني: "كانت محطة تحلية المياه بجانب المنزل. أرسل الصغيرَ معه ما يعادل الدولار تقريبًا لتعبئة الجالون، لكن منذ أن نزح أكثر من نصف سكان المدينة، لم تعد المحطة تعمل يوميًّا بانتظام. فمرة يقولون لا يوجد سولار، ومرة لا يوجد سكان: هل ستعمل من أجل قلة قليلة من الناس؟ ومرة أخرى يتحجّجون بعطل أصابها". وأضافت: "من لا يؤمّن نفسه لأيام يبقَ فريسة العطش هو وعائلته، أو يشرب مياهًا غير مفلترة".

وأوضحت أن الآبار الجوفية التي كانوا يعتمدون عليها سابقًا باتت ملوّثة بسبب المراحيض التي تعتمد على الحفر الامتصاصية، إذ تسرّبت تلك الملوّثات إلى الخزان الجوفي، ولم يبقَ أمام أهل غزة سوى شرب مياه متأكدين من عدم صلاحيتها للشرب أو للاستخدام الآدمي.

وتعلّق السيدة نعمة مسلم: "كنا، ما قبل النزوح، نصطفّ لشاحنات المياه العذبة ثلاث مرات في النهار، فلا يبقى منزل واحد بدون مياه، عدا عن الشاحنات التي تتبع اليونيسف، فتشرب العائلة وتقضي ربّة المنزل حوائجها منها، بينما كان خطّ البلدية يوصل المياه يومين منتظمين في الأسبوع، وبعض المناطق لا تنقطع فيها المياه أبدًا. أمّا اليوم فنشعر أن الجميع تركنا، أفرادًا ومؤسسات، وبقينا وحدنا نكابد ثلاثية الجوع والخوف والعطش".

وإلى جانب همّ الحصول على المياه، يعيش من بقوا في غزة همًّا آخر، وهو فقدان منازلهم بقصفها أو نسفها. ويخبرنا محمد زين الدين بأن "من بقي في بيته يعرف مصيره، لكن من نزح، ويقع منزله ضمن المناطق التي أُخليت مؤخرًا، مثل حي النصر وتل الهوى والصناعة والصبرة، تأكلهم الحيرة، وجلّ ما يريدونه فقط الاطمئنان على تلك الكتلة الخرسانية: هل ما زالت واقفة أم أنها هوت وتحولت إلى ركام؟".

يفتح زين الدين موقع بيتهم عبر القمر الصناعي ليطمئن عائلته، ويقول لهم: "انظروا، ها هو البيت يقف هنا ينتظرنا أن نعود إليه ليحتضننا من جديد"، بينما ينظرون إلى الشاشة وكأنها طفلهم الذي وُلد للتو. تقطع ذلك الحديث عمّته طالبةً منه أن يريها بيتها، لكن ما إن فتح حتى وجد المربّع كاملًا في حي الصناعة غير موجود، قد مُسح بالفعل، فتمسح دمعتها وتلوذ بخلوة طويلة مع ذلك السؤال الذي يطارد كلّ غزّي خسر بيته: "ماذا سأفعل أنا وعائلتي؟".

ولا يُخفي حمزة المصري أن قلق جاره دفعه للذهاب باتجاه بيته بالقرب من مستشفى القدس في حي تل الهوى. فقد اتصل به وأخبره أنه سيلتفّ ويصل من الخلف لأن آليات الاحتلال تتجوّل في مقدّمة الحي. وعلى الرغم من نصحه له بعدم المخاطرة، إلا أنه لم يستجب، وانقطعت أخباره لمدة يومين، بينما كان هاتفه خارج التغطية.

ويكمل: "خاطر ابنه الأوسط وذهب إلى الحي بالطريقة نفسها التي تسلّل بها أبوه إليه، ووصل إلى هناك بعد يومين، حيث كانت الآليات الإسرائيلية قد تراجعت قليلًا، ليجد أباه مقتولًا عند باب المنزل. حمله ووضعه في منزل جيرانهم الذي فُتحت أبوابه على مصراعيها بفعل القصف، وقضى ليلته مع جثة أبيه، وعندما أشرقت الشمس سحبه خارجًا ليدفنه".

لا يُخفي حمزة المصري أن قلق جاره دفعه للذهاب باتجاه بيته بالقرب من مستشفى القدس في حي تل الهوى. وبعد اختفائه ذهب ابنه الأوسط إلى الحي ليجد أباه مقتولاً عند باب المنزل

ويضيف: "ربما لو لم يُخاطر ابنه الشجاع، لأكلت الكلاب جثة الستّيني. حاول الجميع ثنيه عن فعلته وعدم تفقد منزله، فقتل على المدخل، وكأن روحه معلّقة بذلك المنزل وأبت إلّا أن تفارقه بعد أن تراه". وأشار إلى أن من شاهد الجثة أكد أنه زحف عدة أمتار قبل خروج روحه، وقد ظهرت الآثار على يديه وملابسه التي احتكّت بالأرض لعدة دقائق.

يُذكر أن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أكّد، في تقرير مطلع تشرين الأول/أكتوبر، أن سكان مدينة غزة يواجهون تدهورًا حادًا في الوصول إلى وسائل البقاء على قيد الحياة، من بينها المياه، إذ إن مليون شخص يحصلون على أقل من الحدّ الأدنى الطارئ البالغ ستة لترات من مياه الشرب يوميًا، وفقًا لتقييم حديث من شركاء المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية.

الكلمات المفتاحية

مخلفات الحرب في غزة.. الموت يختبئ تحت الركام

مخلفات الحرب في غزة.. الموت يختبئ تحت الركام

قطاع غزة بات من أكثر مناطق العالم تلوثًا بالمتفجرات، وبقاء هذه الذخائر يعني استمرار الحرب بأشكالٍ أخرى


من اقتحام الشفاء إلى جحيم السجون.. ما الذي عاشه أسرى الكوادر الطبية بغزة؟

من اقتحام الشفاء إلى جحيم السجون.. ما الذي عاشه أسرى الكوادر الطبية بغزة؟

في لقاء مع "الترا فلسطين": الممرض أسعد حرز، الناجي من اقتحام الشفاء ومعسكرات الاعتقال في سديه تيمان وعوفر والنقب، يروي ما عاشه من ويلات.


ما بعد النجاح.. طلاب التوجيهي في غزة والأحلام المؤجَّلة

ما بعد النجاح.. طلاب التوجيهي في غزة والأحلام المؤجَّلة

لم تكن نتائج الثانوية العامة هذا العام في غزة مجرّد مناسبةٍ للفرح، بل لحظةً موجعة تختلط فيها الدموع بالتهاني


مصادر لـ الترا فلسطين: وساطة غير مباشرة لتأمين انسحاب عناصر حماس من خلف الخط الأصفر

مصادر لـ الترا فلسطين: وساطة غير مباشرة لتأمين انسحاب عناصر حماس من خلف الخط الأصفر

رغم نفي نتنياهو.. مصادر "الترا فلسطين" تؤكد وجود مفاوضات غير مباشرة من أجل تأمين انسحاب عناصر حماس من خلف الخط الأصفر

قوة الإنفاذ الدولية... هل تعني عودة الاحتلال لغزة؟
قول

قوة الإنفاذ الدولية... هل تعني عودة الاحتلال لغزة؟

التحوّل من "الحفظ" إلى "الإنفاذ" يُثير مخاوف فلسطينية مشروعة من أن تتحول هذه القوة إلى ذراعٍ أمنية دولية تعمل بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية

زياد النخالة
أخبار

النخالة: سلاحنا ما زال بيدنا.. وخطة ترامب وضعت شروطًا لا يمكن تطبيقها

جاء ذلك في افتتاح الدورة الرابعة والثلاثين للمؤتمر القومي العربي في بيروت، بحضور أكثر من 250 شخصية عربية، ومشاركة قادة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية.


جريمة إعدام موثقة: استشهاد فتيين قرب الجدار شمال القدس
أخبار

جريمة إعدام موثقة: استشهاد فتيين قرب الجدار شمال القدس

أعلنت وزارة الصحة استشهاد الفتيين محمد عبد الله محمد اتيم (16 عامًا) ومحمد رشاد فضل قاسم (16 عامًا) برصاص الاحتلال في بلدة الجديرة.

الاحتلال يعتقل 8 مواطنين بينهم مصاب خلال اقتحامات متفرقة بالضفة
أخبار

الضفة: حملة اعتقالات تطال 21 مواطنًا

أصيب شاب فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في القدس، صباح اليوم الجمعة، فيما تواصلت المداهمات في بلدات ومخيمات الضفة الغربية.

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار