28-نوفمبر-2024
الضحك في غزة.jpg

(Getty)

أسير في شوارع القاهرة، الّتي هربت إليها، بعد سبعة أشهر من الإبادة، تاركة غزّة ورائي تئنّ تحت الركام، تسرق ذكرياتي، وأحلامي، وبقايا صحبتي، وأهلي، أحبّتي، والكثير من الصور.

أجر قدماي الثقيلة جدًّا بالأسى، وأتجوّل في الشوارع، أراقب، وأنظر في وجوه الناس، أميل إلى مراقبة الضحكات، دون أن أدري لذلك سببًا! ثمّ أسأل نفسي بفضول، وأكاد أميل عليهم وأسألهم، لماذا يضحكون؟ ما الّذي يمكن أن يكون سببًا مقنعًا للضحك؟

في المقهى، بجانبي سيّدة يعلو صوت ضحكاتها، فيضحك الجالس معها، ثمّ يضحك كلّ من في المقهى، أسمع الحوار المضحك الدائر بينهما، ثرثرات عاديّة، في قضايا باهتة مارقة لا تعنيني، ولا تضحكني، ابتسم! بأقصى ما استطعت، وكأنّه آخر عهدي بالضحك، مجرّد ابتسامة باهتة لا تعني معنى الفرح، ولا تؤدّي غرض الضحك، وكأنّها أقسى محاولاتي وأصعبها، تكبّدت عناءها في محاولة للمشاركة بشيء لم أفهمه، ولم أجرّبه منذ سنوات!

كانت ضحكاتنا، دائمًا مؤجّلة، مركونة في مكان ما، نمنعها من العمل، نهجرها دون استخدام أو تجديد أو صيانة، احترامًا للحزن السائد في حياتنا، أو لأنّنا لم نشعر بالأمان الكامل يومًا، دائمًا هناك حرب أو تصعيد يقف وراء الباب، وقلوبنا متأهّبة له

لأوّل مرّة ألاحظ ذلك، لم أر في غزّة أحدًا يقهقه في مقهى، لا قبل الحرب ولا بعدها، وبالطبع خلالها، وكأنّ غزّة تعاقدت مع الحزن منذ سنوات، منذ 10 حروب ومعارك متفرّقة، تخلّف كلّ مرّة حزنًا جديدًا يقضي على كلّ محاولاتنا البائسة وحصّتنا الشحيحة من الفرح.

هل تعلم يا عزيز القارئ، بأنّ هناك دراسات تؤكّد أنّ الضحك مرتبط بالأمان، فالخائف لا يضحك، مهما كان الموقف مضحكًا، والأمن هو شرط أساسيّ للضحك، بل لاستمراريّته، فلكي تكون إنسانًا يضحك من مواقف لا يراها غيرك مضحكة، فهذا دليل على شعورك بالأمان الحقيقيّ، لتظلّ هكذا تضحك دائمًا وبصوت عال.

في الليلة الماضية، بينما جافاني النوم كعادته منذ أن بدأت حرب الإبادة، كنت أجلس على الشرفة منتظرة صوت آذان الفجر، سمعت صوت ضحكات عالية، يبدو أنّها تأتي من إحدى الشرفات المقابلة، والعتمة تمنعني من تمييز الاتّجاه بدقّة، يثير ذلك الضحك فضولي، يثيره جدًّا، ما الّذي يمكن أن يكون سببًا؛ لأن تعلوا ضحكاتك في الفضاء المعتم الواسع، فتسمع الجيران؟!

منذ سنوات طويلة، وأنا أبحث عن سبب قويّ للضحك، قصّة أو نكتة، وكأنّنا ركنا آلة تصنيع في مصنع مهجور مدمّر، وحينما عدنا إليها نال منها العطب ما نال، فلم تعد تعمل، وقد اكتشفت هذه الحقيقة حينما خرجت من غزّة، ورأيت ضحكات الناس وحماستهم في ذلك، ولطالما جلست بين جماعة أشعر بغربتي؛ لأنّني لا أملك القدرة الحقيقيّة للضحك على طريقتهم!

هكذا كانت ضحكاتنا، دائمًا مؤجّلة، مركونة في مكان ما، نمنعها من العمل، نهجرها دون استخدام أو تجديد أو صيانة، احترامًا للحزن السائد في حياتنا، أو لأنّنا لم نشعر بالأمان الكامل يومًا، دائمًا هناك حرب أو تصعيد يقف وراء الباب، وقلوبنا متأهّبة له. لا أستطيع أن أعدّ لك كمّ الحروب والتصعيدات الّتي توقّفت حياتنا عندها، لم أعد أذكر العدد صراحة.

كما أنّنا مع كلّ فرح نخفّض صوت الضحكات احترامًا لحزن أحدهم في زاوية من زوايا المدينة، وحينما نحضر لفرح، أو زواج ما، نبالغ في مراسيمه، ليال كثيرة، طبل وزمر، رقص ومباهج، طقوس مبالغة للفرح، بدون فرح!

لم نضحك ضحكة في حياتنا تخترق عتمة الليل دون قدرة صاحبها على السيطرة، من أين تأتي أسباب هذا النوع من الضحكات؟ أو بالأحرى، لم أر يومًا أحدًا يضحك بصوت يخترق العتمة، أو يخترق طاولات أحد المقاهي، ويسمع المجاورون لها في غزّة، غزّة لا تضحك كثيرًا!

يا صديقي، كنّا رفقاء ستّة، نضحك حينما نجتمع، ضحكًا معقولًا لا يستكمل معنى الفرح حقيقة، كانت زميلتنا "رولا" أكثرنا ضحكًا، تعلو ضحكتها، فنحاول أن نسكتها؛ لأنّ الضحك في غزّة دائمًا مسروق؛ وكأنّه لم يكن حقًّا من حقوقنا البشريّة.

منذ بدأت هذه الإبادة، وأنا أختلس من بين أصوات القذائف مكالمة مع "رولا"، متقطّعة عادة بسبب انقطاع الاتّصالات، فلا أسمع سوى صوت رجفة حزنها، على بيت مدمّر، وعائلة مشرّدة، وأصدقاء رحلوا، وآخرين لا نعلم عنهم شيئًا، لم أعد أسمع ضحكتها، لم يكن في تلك المكالمات القصيرة المتقطّعة سوى صوت الدموع، بعد أن أصبح البكاء رفيقًا دائمًا لنا، حتّى في الفرح!

ثمّ جفّت الدموع، وبات الموت عابرًا عاديًّا، لم يعد هو الآخر سببًا مقنعًا للبكاء، أصبحنا نبحث عن مشاعر جديدة، أكبر من البكاء، لنعبّر فيها عن كلّ هذا الألم، وحدها "رولا" ما زالت تبكي بينما تحجر دمعي.

أحاول الآن أن أهاتف "رولا" بعد نزوحها من رفح، إلى خيمة في المواصي، منذ سبعة أشهر، أن أطمئنّ على ضحكاتها ودمعاتها، ألا زالت تبكي؟ أريد أن أخبرها أنّها يمكنها أن تضحك بصوت عال، بل أرجوها أن تفعل، ولن أسكتها أبدًا، أريد أن أخبرها أنّه هنا، في مكان ما خارج غزّة، يضحك الناس بأصوات عالية، دون أن يسكتهم أحد، دون أن يقيّدهم موت أو نكبة أو حجارة الردم، هنا لديهم الكثير من الأسباب للضحك، أسباب لم نعرفها، ولم نعشها يومًا.. لنضحك.