جوقة المتحدثين والمحللين العسكريين الإسرائيليين، أشبعت جمهورها، خلال الأسابيع الماضية، بمناسبة مرور عام على انطلاق الانتفاضة، اجترار الادّعاء القائل أن انتقال زخم "انتفاضة المنفردين" من القدس إلى مدينة الخليل، خير دليل على نجاح "سياسة الردع" في القدس؛ في إشارة للخطوات الانتقامية التي تستهدف أسر الشهداء بهدم المنازل أو الإبعاد عن المدينة المقدسة.
بالإضافة لتعزيز عنصر "الردع" لثني المنفردين عن تنفيذ الهجمات؛ رأى غالبية المحللين العسكريين الاسرائيليين أن حقيقة عدم نجاح "المنفردين" مؤخراً بإلحاق خسائر بشرية كبيرة في صفوف الاسرائيليين أدت لتراجع الهجمات، ولكن "نجاح عملية القدس" قد يعطي دفعة جديدة لموجة من العمليات.
أثبتت عملية أبو صبيح في القدس أن "سياسة الردع" الإسرائيلية باءت بالفشل
الدراسات الأمنية القليلة التي أعدتها الأجهزة الاستخبارية والدوائر الأكاديمية في "إسرائيل"، خلُصت الى أن "هجمات المنفردين" تُنصف تحت بند "هجمات الأجواء". فالتوتر يدفع الشبان لتنفيذ الهجمات، وكل عمليةٍ ناجحةٍ تزرع بذور الهجوم المقبل، وانطلاقًا من هذا الفهم، يقيم جهاز المخابرات الإسرائيلية "الشاباك" ما حدث في حي الشيخ جراح.
اقرأ/ي أيضا: شاهد: الفلسطينيون يحتفون بعملية القدس ومنفذها
خلال هجومه، أظهر الشهيد مصباح أبو صبيح، حرفيةً عاليةً في استخدام البندقية الآلية خلال قيادته سيارته وأثناء ملاحقته لجنود "وحدة يسام لمكافحة الارهاب" التابعة للشرطة، فأردى جنديًا قتيلاً برصاصة في الرأس، فيما أصاب الآخر بجروح خطيرةٍ في صدره. وللصورة دلالاتها على طرفي النقيض، الاسرائيلي رأى الجندي الذي من المفترض أن يقدم له الحماية مضرجًا بدمائه أو فارًا بحياته. طبعًا الجيل الفلسطيني الجديد رأى المشهد ولا تعوزه القدرة على استخلاص الاستنتاجات.
كيف نجح أبو صبيح بقيادة سيارته من نقطة إلى نقطة أخرى تتجاوز في طولها الكيلومتر وهو يطلق النار من بندقية "أم 16" الآلية في عصب المواصلات المركزي في القدس؛ الذي يشهد استنفارًا أمنيًا بشكل دائم رفعت وتيرته منذ بداية موسم الأعياد اليهودية الذي يتم خلاله اقتحام المسجد الاقصى. هذا السؤال سيجد روني الشيخ القائد العام للشرطة نفسه مضطرًا للإجابة عليه، وثمة من سيدفع ثمن هذا الإخفاق كما جرت العادة في "إسرائيل".
أما التساؤل المركزي الذي سيصل "الشاباك" الليل مع النهار خلال الأيام المقبلة للإجابة عليه؛ "هل عمل أبو صبيح بشكل منفرد؟ ومن قدم له السلاح والذخيرة، ومن دربه استعدادًا للهجوم؟ ثمة فرضيتين للإجابة على هذا التساؤل، الأولى هي أن أبو صبيح مهاجم منفرد ولكن من نوع جديد، أو أنه جزء من بنية تنظيمية وفرت له السلاح والتدريب. وفي كلتا الحالتين يعتبر هذا تطور يضع الاحتلال أمام تحدٍ جديد.
سواءً كان أبو صبيح فدائيا منفردا أو ضمن خلية فإن هذا يعني إخفاق الاحتلال وتطور المقاومة
استنتج "الشاباك" من التحقيق مع عشرات الشبان الذين نجح في اعتقالهم قبل تنفيذ عملياتهم، أن الفترة الزمنية الفاصلة بين اتخاذ القرار بتنفيذ الهجوم والتنفيذ الفعلي، تتراوح في الغالب بين بضعة ساعات إلى 10 ساعات. ولكن في حالة أبو صبيح تشير التحقيقات الأولية إلى أنه عقد العزم على تنفيذ هجومه قبل عام على الأقل، وانتظر بفارع الصبر نضوج الشروط الموضوعية للنجاح، فحصل على السلاح وتدرب عليه وأتقن استخدامه وقد يكون ذلك بإمكانياته الذاتية.
وإن صح هذا الاحتمال فإن "موجة المهاجمين المنفردين"، أنجبت نمطاً جديداً بالإمكان تسميته بـ"المنفرد النائم"؛ على غرار ما يعرف بـ "الخلية النائمة"، وهو العمل الذي يؤرق وينهك أي جهاز استخباري، لأن هذا الأسلوب يراهن على الزمن؛ فكلما استعاد "العدو" الشعور بالأمن الشخصي جراء توقف العمليات، فإن الوقت يحين لتوجيه الضربة لتبديد ذلك الشعور؛ وللتأكيد أن الهجمات مستمرة.
حتى الآن، يستبعد "الشاباك" وقوف خلية منظمة خلف العملية. ولكن في حال ثبت عكس ذلك؛ فإن أحد الأجهزة العسكرية لفصيل فلسطيني استعاد عافيته في القدس، وهذا بحد ذاته مؤشر جديد على الفشل الاسرائيلي.
عملية القدس ذكّرت المستوطنين في المدينة بالأمن الشخصي الذي قد يفقدونه في أي لحظة، وشخص أبو صبيح مؤشر على إفلاس "سياسية تعزيز الردع". فالرجل لم يُثنه الاعتقال أو الإبعاد عن المسجد الاقصى والمنع من السفر، وحتى هدم المنزل، ولعل أخطر ما في الهجوم أنه أعلن أن الانتفاضة بالقدس مستمرة، وأنها دخلت عامها بهجوم استعراضي، أظهر رباطة جأش المهاجم المنفرد وفرار جنود النخبة من أمامه.
اقرأ/ي أيضا: