19-يناير-2017

بحسب ألف باء الصحافة، ومعاييرها العالمية، فإن المادة الصحافية المهنية تحتاج سياقًا جيدًا. وحتى يكون السياق جيدًا، فلا بد من النزاهة والأمانة، ولا شيء آخر!

فالسياق يقلب القصة رأسًا على عقب، فسرده بصدق –نعي أن الصدق نسبيٌ أيضا-، يعطي الجمهور خلفية معلوماتية لا بد منها تهيئه لفهم المستجدات الحديثة، والمكر في تغييبه أو تضليله يشوه الحقائق، فتـفهم في غير موضعها.

فخبرٌ مفاده أن لاجئًا إفريقيًا سرق مطعمًا وسط باريس، فقط، يختلف عن خبرٍ آخر يروي أن اللاجئ الإفريقي سرق المطعم بعد أن تخلف مالكه عن دفع أجور عماله لعامين متتاليين، والذي يعد لاجئنا هذا أحد موظفيه. الحقيقة في الخبرين واحدة، لا اختلاف، إلا أن "السياق" غيّر بلا شك من طريقة تفاعل الجمهور مع تلك المادة الصحافية.

الإعلام العالمي قدم تهجير أهالي أم الحيران على أنه شأنٌ إسرائيليٌ داخليٌ، وأن ملفهم مدنيٌ اجتماعيٌ لا أكثر

في الواقع، لا يخفى على المراقب لتغطية الإعلام العالمي لقضايا المناطق الفلسطينية/العربية داخل الخط الأخضر، أي داخل دولة إسرائيل الحالية، أن هناك أزمةً في "سياق" المواد الصحافية المنتجة من تلك البقعة الجغرافية.

اقرأ/ي أيضًا: النقب: شهيد ومصرع جندي في مواجهاتٍ عنيفة

وانطلاقًا من الأحداث الأخيرة في قرية أم الحيران البدوية في صحراء النقب جنوبي البلاد، والتي تريد الحكومة الإسرائيلية هدمها بالكامل لصالح قرية يهودية جديدة، ستكون معاينتنا، على سبيل المثال لا الحصر.

الراصد لعشرات المواقع الإلكترونية لكبريات وسائل الإعلام العالمية، يلاحظ أن التسمية السائدة لتلك الشريحة الديموغرافية هي "الإسرائيليون العرب"، أو "بدو إسرائيل"، مما يولد انطباعًا للمستهلك الأجنبي أن المسألة ملف إسرائيلي داخلي، بين دولة إسرائيل وشريحةٍ ما من مواطنيها. بالتالي، فملف هؤلاء مدني/اجتماعي، لا شيء آخر.

النزاهة التي تغنّـينا بها في البداية تجبر الصحافي المهني على طرح المنظور السابق، بلا شك، خاصة مع تبنيه من نسبةٍ لا يستهان بها من سكان الخط الأخضر حاليًا. لكن السؤال، هل هذا هو الخطاب الوحيد؟

لا بكل تأكيد، إذ تستمر نسبةٌ كبيرةٌ أيضًا بتعريف نفسها "كفلسطينيين"، أو "فلسطينيي 48"، ممن يعتبرون وجودهم داخل الخط الأخضر "صمودًا رغمًا عن مشروعٍ استعماريٍ" أنتج دولةً ولدت عام 1948. وبالنسبة لهؤلاء، فـ "نضالهم" ليس اجتماعيًا، ولا يدور في فلك الحقوق المدنية، بل امتداد "لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني"، بطريقةٍ أو بأخرى. فهل أنصفت وسائل الإعلام الشريحة الثانية كما فعلت مع الأولى؟

بات من الجلي أن الإعلام العالمي، في الغالب، يتجنب بحذرٍ شديدٍ أي ربطٍ بين ما يجري في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، مع ما يجري داخل الخط الأخضر. ففي الأولى هو "احتلالٌ عسكريٌ" بحسب المواثيق الدولية، وفي الثانية هي "دولةٌ شرعيةٌ" معترفٌ بسيادتها منذ عقودٍ طويلة، ولا رابط بين هذا وذاك.

بالرغم من أن الهدم الحالي داخل الخط الأخضر، كأم الحيران وقلنسوة على سبيل المثال، يتزامن مع خطواتٍ إسرائيليةٍ مشابهةٍ في مناطق مختلفة بالضفة الغربية. بل إن المفارقة الأبرز أن ما يجري مؤخرًا هو تنفيذٌ لتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كشف علنًا نيته هدم "المساكن العربية اللاشرعية داخل إسرائيل" عقب قرار إخلاء بؤرة (عمونا) الاستيطانية المقامة في الضفة الغربية، بالرغم من أن الثانية تعد لا شرعية بحسب القانون الدولي، والإسرائيلي أيضا.

أزمة السياق تتعرى أيضًا مع كل مادةٍ صحافيةٍ منشورةٍ تتجنب سردًا سريعًا -على الأقل- لأحداث عام 1948، وما قبلها. ففي حالة قرية أم الحيران مثلاً، كم من وسيلةٍ إعلاميةٍ عالمية ذكرت أن السكان أجبروا على ترك مكان سكنهم الأصلي في منطقةٍ مجاورة عام 1950 لصالح قريةٍ زراعيةٍ يهودية؟ لتعطيهم الحكومة الإسرائيلية مكانًا بديلاً مؤقتًا للسكن، وهو ما بات يعرف بأم الحيران. اليوم، وبعد عقودٍ طويلةٍ، تطالب الحكومة باسترداد "أراضي الدولة" من جديد.

كم من وسيلةٍ إعلاميةٍ ذكرت أن القرية لم تعرف خدمات الماء أو الكهرباء يومًا منذ عام 1950، بالرغم من أن سكانها يحملون المواطنة الإسرائيلية؟ كل ما سبق ذكره حقائق دامغة وثقتها المحاكم الإسرائيلية، مما لا يدع مجالاً لنكرانها. ولهذا على ما يبدو، اختار بعض محرري هذا العالم تغييبها.

كل المعلومات الخام المكونة لما يسميه البعض "السياق الاستعماري"، أو "التطهير العرقي المستمر" كان غائبًا، إذ حضر فقط "خطاب المواطنة"، وبدا سكان القرية مجموعةً تطالب بالاعتراف بقريتهم "اللاشرعية" من قبل الحكومة الإسرائيلية، وقبولهم كمواطنين صالحين في البلاد.

المهنية الصحافية تقتضي تنصيص الخطاب الأخير، إذ لا يمكن نكران ذلك، أحببنا ذلك أم لم نفعل، فهو حاضرٌ وبقوة، لكن نقيضه حاضرٌ أيضا، وبالتالي فإن الاختزال والتغييب مسألةٌ لا أخلاقيةٌ في عالم الصحافة، وحيلةٌ تحريريةٌ خبيثةٌ مذمومة.

يعي صحفيو هذا العالم أن المواد الصحافية تخضع لـ"حرب السياقات" أيضًا. وفي الواقع، المسألة ليست بتلك البساطة، بل في غاية التعقيد، تماما كدرجة تعقيد الملف الفلسطيني-الإسرائيلي الذي لا نهاية وشيكة له في الأفق، على ما يبدو.

في المقابل، التحفظات السابقة لا تعني مطالبتنا كصحفيين/مراقبين لوسائل الإعلام تلك باستخدام لهجة حادة نقيضة. فمصطلحات "فلسطين المحتلة 48"، أو "الداخل المحتل"، وغيرها من أمثالها تعد غثاءً في عالم الصحافة، لا يتجاوز دائرة "مخاطبة النفس" التي تمارسها بعض وسائل إعلامنا الموجهة للجمهور غير العربي. 

اقرأ/ي أيضًا: 

نكون الأغلبية.. أو لا نكون!

منابع الطابع الإلغائي للصهيونية

حيفا المخيم