ما تزال التقارير الإعلامية الإسرائيلية تتوالى كاشفة تفاصيل حول مقتل إسرائيليين بنيران جيش الاحتلال، في إجراء متعمد هدف من خلاله الاحتلال إلى قتل مقاومين كانوا يحتجزونهم. أحدث هذه التقارير، نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" في شهر كانون ثاني/يناير، مبينة وجود أمر صريح من قيادة الجيش لجميع الوحدات بتنفيذ إجراء "هانيبال" يوم السابع من أكتوبر للقضاء على جميع خلايا المقاومين التي تحتجز رهائن أو تحاول أخذ أسرى، وقد أسفر ذلك عن عدد غير معروف من القتلى، وقصف 70 مركبة بالمروحيات وقذائف المدفعية.
ما هو إجراء "هانيبال"؟
الإجراء المعروف إعلاميًا خارج إسرائيل باسم "هانيبال"، يمنح الجيش صلاحية القصف لمنع وقوع جندي في الأسر، وهذه الإجراء يلفظ "حنبعل" باللغة العبرية، وتحرص إسرائيل في السجال حوله على إبراز أنه فقط يقتصر على الجنود وأن من كان مخولاً بممارسته العسكريون حصرًا في حالة انسحاب القوة التي نفذت عملية أسر جندي او أكثر، لكن الممارسة الفعلية حتى قبل عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر تُبين على الأقل في حالة موثقة استخدام إجراء "هانيبال" من قبل حراس أمن مدنيين بحق "مدني" يُدعى ياكير بن ملك عندما كان يحاول التسلل لقطاع غزة.
إجراء "هانيبال" هو أمر عملياتي تمت صياغته في عام 1986 لتوضيح قواعد العمل الفوري في حالة أسر جندي من قبل العدو، وتعوذ جذوره إلى عام 1982، بعد أسر ثمانية جنود من لواء "ناحال" في لبنان
قُتل ياكير بن ملك، يوم 7 كانون أول/ديسمبر 2009، برصاص حراس الأمن التابعين لوزارة الجيش عندما حاول عبور السياج إلى قطاع غزة عند معبر إيرز. وادعى أقاربه أنه كان يعاني من اضطراب عقلي، وأنه كان يقول إنه يريد إطلاق سراح جلعاد شاليط. وفي مقابلة مع قائد الجبهة الجنوبية الأسبق تسفي فوجل، تم الكشف عن استخدام إجراء "هانيبال" في هذه الحادثة. كما تم توجيه انتقادات لمقتل "المواطن" على يد شركة أمنية خاصة.
إجراء "هانيبال" هو أمر عملياتي تمت صياغته في عام 1986 لتوضيح قواعد العمل الفوري في حالة أسر جندي من قبل العدو، وتعوذ جذوره إلى عام 1982، بعد أسر ثمانية جنود من لواء "ناحال" في لبنان، حيث صدرت تعليمات شفهية إلى الجيش الإسرائيلي مفادها أنه يجب القيام بكل شيء لمنع أسر الجنود، لكن الآراء اختلفت حول معنى هذه التعليمات. وبحسب قائد المنطقة الشمالية في تلك السنوات، أوري أور، فإن الأمر أشار إلى أعمال محددة مثل قطع الطرق وضرب السيارة التي تستخدمها الخلية التي نفذت عملية الأسر أثناء انسحابها من أجل إيقافها، ولكن ليس للقتل العمد، إلا أن الجنود اعترفوا لاحقًا في تحقيق بثه التلفزيون الإسرائيلي بوجود أمر صريح بإطلاق النار على المركبة حتى لو كان ذلك على حساب إيذاء ركابها.
النص الأصلي لإجراء "هنيبال" الذي تمت صياغته عام 1986، كما جاء في تحقيق التلفزيون الإسرائيلي، تناول تعليمات إطلاق النار في حالة أسر جندي، التي بموجبها يجب العمل بكل الطرق الممكنة لإحباط عملية الأسر، بما في ذلك إطلاق النار على الآسرين حتى لو أدى ذلك لتعريض الأسير للخطر على النحو التالي:
1. أثناء عملية الاختطاف، تصبح المهمة الرئيسية هي إنقاذ جنودنا من الخاطفين حتى على حساب إيذاء جنودنا أو إصابتهم.
2. إذا تم التعرف على الخاطفين والمخطوفين ولم يستجيبوا لدعوات التوقف، فيجب إطلاق النار من الأسلحة الخفيفة من أجل إنزال الخاطفين على الأرض، أو إلقاء القبض عليهم.
3. إذا لم تتوقف السيارة أو الخاطفون، فيجب إطلاق النار عليهم من الأسلحة الخفيفة بشكل فردي، وبشكل متعمد، من أجل إيذاء الخاطفين حتى لو كان ذلك يعني إيذاء جنودنا.
مبدأ "الجندي الميت أفضل من الجندي الأسير"، كرستها صفقة التبادل التي أبرمتها الجبهة الشعبية - القيادة العامة المعروفة بصفة أحمد جبريل، التي تحرر بموجبها المئات من الاسرى أبرزهم الشيخ أحمد ياسين وعدد من قيادات الجهاد الإسلامي وبقية الفصائل، وهؤلاء تنسب لهم المخابرات الإسرائيلية الدور الأكبر في تنظيم الانتفاضة الأولى، وقد أصبح هذا المبدأ "الجندي الميت أفضل من الجندي الأسير" مُسلّمة في العقيدة العسكرية الإسرائيلية على أثر صفقة شاليط -"وفاء الأحرار"- التي تحرر بموجبها الكثير من القيادات الفلسطينية أبرزهم يحيى السنوار.
ومن الناحية النظرية يتضمن إجراء "هانيبال" سلسلة من اللوائح في حالة الإعلان عن أسر جندي لتحفيز الاستجابة التلقائية لإحباط عملية الأسر، دون الحاجة إلى الحصول على موافقات على كل إجراء، لأن هذه الموافقات تستغرق وقتًا طويلاً. ويتضمن الإجراء إقامة حواجز على الطرق وإتلاف البنية التحتية مثل الجسور والطرق لمنع الآسرين من الانسحاب، وإطلاق أعيرة نارية كثيفة على الخاطفين.
في عام 1986، تعرض الجنديان يوسف فينك ورحيم الشيخ للأسر، وعلى ما يبدو بسبب الخوف من صفقة تبادل أسرى أخرى مماثلة لصفقة أحمد جبريل، نشأت حاجة لدى الجيش الإسرائيلي إلى دمج التعليمات الشفهية في إجراء مكتوب، وفعل ذلك بالفعل قائد القيادة الشمالية يوسي بيليد، وقائد عمليات الشمال العقيد غابي أشكنازي، والعقيد يعقوب عميدرور. حينها تم توجيه الجنود إلى تطبيق هذا الإجراء الذين طُلب منهم اتباعه.
يقول عميدرور، الذي صار لاحقًا برتبة لواء وترأس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي قبل تقاعده، إن اسم "هانيبال" تم اختياره عشوائيًا من قبل كمبيوتر الجيش الإسرائيلي، وكان "هانيبال" جنرالًا قرطاجيًا فضل الانتحار عن طريق ابتلاع السم عندما طلب الرومان رأسه. ويشكك البعض داخل إسرائيل في أن اسم "هانيبال" تم اختياره عشوائيًا، مشيرين إلى مضمون ارتباط الاسم بتفضيل الانتحار على الوقوع في الأسر.
يشكك البعض داخل إسرائيل في أن اسم "هانيبال" تم اختياره عشوائيًا، مشيرين إلى مضمون ارتباط الاسم بتفضيل الانتحار على الوقوع في الأسر
في عام 2014، أثناء عدوان "الجرف الصامد" -عملية العصف المأكول، فلسطينيًا- نفذ جيش الاحتلال إجراء "هانيبال" لمنع وقوع عدة جنود في قبضة المقاومة، وإثر ذلك أكد فحصٌ أجراه المراقب العام الاسرائيلي وجود ثغرات كثيرة في فهم جوهر إجراء "هانيبال" بين الرتب والوحدات المختلفة في الجيش. ونتيجة لذلك، أوصى المراقب العام بدراسة إلغاء إجراء "هانيبال" أو دمجه في أوامر أخرى في الجيش الإسرائيلي، كما أوصي بمنح صلاحية استخدام النيران المكثفة عند إحباط عملية أسر لرتب أعلى في الجيش، ومراعاة مبادئ القانون الدولي، مثل مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين ومبدأ التناسب.
وبعد توصية المراقب العام، بدأ الجيش الإسرائيلي صياغة أمر عملياتي جديد بشأن استخدام القوة النارية أثناء اي عملية أسر، وأصدر لاحقًا رئيس الأركان، حينها، غادي آيزنكوت قرارًا بإلغاء إجراء "هانيبال". وفي كانون ثاني/يناير 2017، تم الإعلان عن استبدال هذا الإجراء بأمر جديد يظل اسمه سريًا. بموجب الإجراء الجديد، سيتم السماح باستخدام "القوة غير المعقولة ضد "لخاطفين في حالة اختطاف جندي"، وكذلك إطلاق المزيد من النار داخل الأراضي الإسرائيلية، إذا كانت عملية الاختطاف في هذا الاتجاه وكانت القوة مطلوبة لذلك.
رغم الادعاء نظريًا بإلغاء إجراء "هانيبال" واستبداله بإجراء آخر، لكن تبين أن جيش الاحتلال طبق فعليًا هذا الإجراء ضد المستوطنين في كيبوتس "بئيري" عندما استهدف منزلاً تحاصره قوات خاصة إسرائيلية رغم عدم وجود احتمال بنجاح المقاتلين في الانسحاب وهم يقتادون الأسرى. كما كشف قائد الفرقة 99 في الجيش الإسرائيلي باراك حيرام لصحيفة "نيويورك تايمز" أنه أصدر أمرًا عسكريًا بقصف منزل في مستوطنة بيئري في غلاف غزة، ما أدى لمقتل 12 مستوطنًا واستشهاد عشرات المقاومين.
إثر ذلك، وجهت عائلات إسرائيلية من كيبوتس "بيئيري" قتلوا في يوم السابع من أكتوبر، وجّهوا كتابًا رسميًا لرئيس أركان جيش الاحتلال يطالبونه بفتح تحقيق لمعرفة إن كان قتلاهم سقطوا جراء قذائف المدفعية الإسرائيلية.
كذلك أكدت مستوطنة، شاهدة على طوفان الأقصى يوم السبت 7 تشرين أول/أكتوبر، أن مقاتلي كتائب القسام لم يحاولوا قتلهم، بل تعاملوا معهم "بأخلاق"، مشيرة في شهادتها للإذاعة العامة الإسرائيلية إلى وجود اشتباه بأن يكون عدد من المستوطنين قتلوا بالنيران التي أطلقتها قوات الاحتلال "بكثافة وفي كل اتجاه" حسب قولها.
مغيل ليفي، عالم الاجتماع الإسرائيلي المتخصص في العلاقة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل، كشف أيضًا أن قائد الكتيبة 51 في لواء النخبة "جولاني" شوكي ريباك أمر جنوده في عملية "الرصاص المصبوب" -2009،2008- بفعل كل ما بوسعهم لمنع وقوع أي جندي في الاسر وإذا لزم الأمر، سيفجر قنبلة يدوية على نفسه.
وأوضح ليفي، أن شوكي ريباك مثل باراك حيرام ينتميان إلى التيار الحريدي المتشدد دينيًا وقوميًا، وهذا التيار تؤيد أجزاء منه النسخة الصارمة من إجراء "هانيبال". وعلى حد تعبير الحاخام شلومو أفينير: "في الأخلاق السياسية، فإن الشخص المختطف أكثر خطورة من الميت. فالموت كارثة، لكن الوقوع في الأسر مأساة تحطم المعنويات الوطنية والروح القتالية".