12-يوليو-2018

Getty

"وثائقي من جزءين بعيد صياغة قصّة ولادة إسرائيل كما يراها العرب والإسرائيليون، من خلال نصّ خال من الأيدولوجيّة أو التحزب.. مدعومًا بصور أرشيفيّة اكتشفت حديثًا".

بهذه الكلمات تصف قناة العربيّة الوثائقيّ الذي عرضته تحت اسم "النكبة"، لصانعيّ الأفلام الصهيونيين، ويليام كاريل وبلانش فنغر، والمعروفان بولائهما المطلق لإسرائيل.

البدء بهرتسل، "الرياديُّ الحالم"، والذي رأى في الصهيونية حركة علمانيّة تسعى إلى بناء إنسان ومجتمع جديدين في إسرائيل، بانفصالٍ تامّ عن الدّين وتحرر منه، وتبنِّي للسردية الصهيونية التي ترى في قصة "ولادة إسرائيل"، بمثابة المعجزة التي لم يُصدّقها حتى الصهاينة أنفسهم.

الفيلم لم يتطرّق للوجع الفلسطينيّ بقدر ما كان معنيًا برواية قصّة شعب يهودي تمّ اضطهادهُ، وكان لا بدّ من تعويضه بإقامة دولة قوميّة تمنع تكرار الخطيئة الأوروبيّة!

كان خطأ فادحًا أن تُسمّي "العربية"، الفيلم بـ"النكبة"، فالوثائقيّ لم يكن معنيًا بالفلسطينيّ أو بسرديّته أو بمعاناته وتهجيره وما قاساهُ بعد ذلك من سنوات المنفى واللجوء القسريّ، بقدر ما كان معنيًا بأن يروي قصّة شعب يهودي تمّ اضطهادهُ أوروبيًا، وكان لا بدّ من تعويضه بإقامة دولة قوميّة تمنع تكرار الخطيئة الأوروبيّة؛ النازيّة.

مجتمع يهوديّ ومعاداة عربية للساميّة

يوحي الفيلم منذ البداية، بأنّ مجتمعًا يهوديًا كان قائمًا في فلسطين منذ بداية القرن العشرين وحتى قبل ذلك بسنوات. كان مجتمعًا يعيش في سلام وطمأنينة جنبًا إلى جنبٍ مع جيرانه العرب، في مغالطة تاريخيّة تؤسِّس لتزييف كامل للتاريخ فيما بعد. فما كان من وجود يهودي في فلسطين سابق على موجات الهجرة الصهيونيّة المنظّمة إلى فلسطين، كان وجودًا لأقلّية يهوديّة لم تكن تختلف عن أيّ أقلّية أخرى في ذلك الزمان، حيث لم يكن هناك حدود واضحة، وكان الوجود السكاني في فلسطين وغيرها من المناطق الجغرافية حول العالم، يخضع لحدود الإمبراطوريّة لا لحدود الدّول. إلَّا أنّ الوثائقيّ أصرّ على رؤية الوجود اليهودي في فلسطين السابق على الهجرة الصهيونيّة، كوجود مؤسّس وطبيعي وسابق على ولادة الدّولة الإسرائيليّة التي احتضنت ذلك المجتمع وقامت على حمايته.

اقرأ/ي أيضًا: حكاية الشعب اليهودي في فلسطين

ضمن هذا المنطق يتمُّ وصف عصابات الهاغاناه الصهيونيّة بـ"الجماعة المسلّحة من أجل الدفاع عن اليهود الفلسطيين" في فلسطين، وضمن هذا المنطق التاريخي الصهيوني في قراءة التّاريخ الذي تتبنّاه قناة "العربيّة" السعوديّة، تتم قراءة تاريخ النكبة وتهجير شعب بأكمله.

ففي الطّريق إلى اللحظة الحاسمة (النكبة 1948)، ومن خلال شهادات مؤرّخين صهاينة، يُنسَبُ إلى العرب بيعهم لأراضيهم: "باع جميع الفلسطينيين العرب الأراضي لليهود الوافدين، ثمّة صكوك بيع". كذلك، فإنّ منع العمّال العرب المحليين من بناء المستوطنات التي أنشأتها الحركة الصهيونيّة، يعدُّ في نظر المؤرّخين الصهاينة، سببًا من الأسباب التي دفعت إلى مزيد من التوتّر بين العرب واليهود؛ المستوطنات التي بنيت على أراضي فلسطينيّة مغتصبة.

    تغيبُ الأرقام عن الضحايا الفلسطينيين، ليكونوا نسيًا منسيًا، كقضيّتهم!    

يلجأ الوثائقيُّ وكذلك ترجمته بواسطة "العربيّة"، إلى اللغة والمصطلحات لطمس الحقِّ العربيّ الفلسطينيّ تاريخيًا وفي الحاضر. "مع ظهور القوميّة العربيّة بدأت أولى التظاهرات المعاديّة للساميّة.."، المظاهرات التي أسفرت عن مقتل أكثر من خمسين شخصًا، يصحبُها الفيلم بالموازاة مع كلام المعلّق، بصور الضحايا اليهود محمولة على الأكتاف. وفي مقابل الأرقام الواضحة والقاطعة بما يتعلّق بعدد الضحايا اليهود، تغيبُ الأرقام عن الضحايا الفلسطينيين، ليكونوا نسيًا منسيًا، كقضيّتهم. "حائط المبكى"، هو المصطلح المستخدم في الفيلم للإشارة إلى "حائط البراق".

ويستمرّ الفيلم في طمس الحقائق التّاريخيّة عن مرحلة هي الأهمّ في تاريخ الصّراع العربي الإسرائيلي (1921-1948)، حيث يشير "الوثائقيّ" إلى أن "شائعات حول هجوم يهوديّ وشيك على المسجد الأقصى"، كانت الدّافع وراء هجمات للعرب على اليهود أسفرَت عن مقتل "67" يهوديًا بينهم نساء وأطفال في الخليل، ومرّة أخرى، تحضر صور الضحايا اليهود، التي تشبه صور ضحايا اليهود في المعتقلات النّازية التي تظلُّ تظهر بين الحين والآخر كلّما جاء مؤرّخ إسرائيليّ ليدلي بشهادته عن تلك المعاناة في تبرير للوجود الصهيوني في فلسطين. مجازر عربيّة أخرى في صفد تسفر عن مقتل 18 عشر يهوديًا، وأخرى تسفر عن مقتل 133 يهوديًا، وفي مقابل هذه الأرقام الكبيرة وصور الضحايا، وفي إشارة ذليلة سريعة، تبرز بعض الأرقام الغامضة والتّافهة لضحايا العرب، 6 هناك و7 هنا.

النازيّة الألمانية والنازيّة العربية..

يعود الفيلم سريعًا إلى أوروبا، إلى صعود النازية في عام 1933 والظُّروف القاسية التي عاشها اليهود إبّان الحرب وخلال سنواتها، وموجات الهجرة التي أخذت تتدفّق بوتيرة أكبر إلى فلسطين تحت ذريعة: "لم يكن هناك مكان نذهب إليه". مهندسون وعلماء ومفكّرون، شركات حديثة، نمط حياة أوروبيّ، "إنه حلم هرتسل يتحقّق بعد سنوات على موته". وعلى وقع التطوّر الذي تشهده البلاد على يد المهاجرين الصهاينة، يحضر العربيّ مرّة أخرى في عام 36 في دعوة مفتوحة للإضراب، تتغيّر مقاطع الفيديو التي يظهرها الفيلم من الشّواطئ والمقاهي الراقية إلى شوارع مليئة بعناصر الشرطة الإنجليزية والشغب يعمّ البلاد. وفي تعليقٍ بسيط: "مقتل أكثر من 300 يهودي، ومئات العرب".

   ركّز الفيلم على المعاناة اليهوديّة مقابل إغفال وتجاهل ما سبَّبه الوجود الصهيوني طوال هذه السنوات من معاناة للفلسطينيين  

المفتي أمين الحسيني ولقائه مع هتلر يحضر مرّة أخرى، لتثبيت السّرديّة الصهيونيّة عن "عربٍ معادين للساميّة ويحملون في أعماقهم حقدًا أعمىً ضدّ اليهود". تندلع الحرب. "لم يمتلك اليهود مكانًا للذهاب إليه"،"تم قتل ثُلث اليهود في العالم"، وتتوالى مقاطع الفيديو من معسكرات أوشفيتز وداكاو النازيّة، وصور اللاجئين اليهود في مخيماتهم في قبرص في طريقهم إلى فلسطين. إنّها رحلة معاناة حقيقيّة تلك التي يريد لنا الوثائقيّ، ومن خلفه قناة "العربية" أن نتعاطف معها، ومع ضحاياها على حساب "ضحايا الضّحايا"، الفلسطينيين.

وبكلمات مختصرة، صوّر الجزء الأوّل من الفيلم رحلة معاناة شاقّة وقاسيَة لليهود في أنحاء العالم، معتبرًا إيّاهم أوّلًا شعباً سابقًا على الدّولة، بالموازاة مع الشّعار الصهيوني العالميّ: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، فكذلك لم يحضر العربيّ إلَّا بوصفهِ مشاغبًا رافضًا لليهود، معاديًا للساميّة. تمّ التركيز على المعاناة اليهوديّة في مقابل إغفال وتجاهل لما سبَّبه الوجود الصهيوني طوال هذه السنوات من معاناة للفلسطينيين.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تجسس الإسرائيليون علينا في المقاهي؟

وضمن هذا المنطق، تمّ سرد أحداث النّكبة برؤية صهيونية مطلقة وبمعادلة جدُّ بسيطة. رفض العرب الوجود الصهيونيّ، وبدأوا التفجيرات في الأحياء الصهيونية في اليوم التالي على تصويت الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين، فما كان باستطاعة اليهود سوى الدفاع عن أنفسهم. ومرّة أخرى، يعلّق المعلّق: "ضحايا النازية قبل سنوات.. كانوا يشعرون أنّهم في نضال مستمرّ للبقاء". أغفِلَت المجازر التي ارتكبت بحقّ الفلسطينيين، فيما عدا الإشارة إلى دير ياسين بوصفها مجزرة لم تكن في نيّة إسرائيل ارتكابها إلّا أنّ مقاومة القرية وقتلها لستة من الجنود اليهود أسفرت عن تلك المجزرة، وفيما عدا ذلك من مجازر كان لترويع العرب وإجبارهم على الرّحيل. بالكاد دقيقتين لسرد تاريخ المجازر الصهيونية، بالكاد ثلاثين ثانية لرواية قصّة دير ياسين. وبكلمات بسيطة: شنّ العرب حربًا، قاوموا الحلم الأخلاقيّ والحقّ الأخلاقيّ لليهود ضحايا النازيّة بالأرض وبالوجود، فهُزموا وهَربوا، والجريمة الوحيدة التي ارتكبت: هي عدم السّماح لهم بالعودة.

في الجزء الثاني،

"ولدت إسرائيل.. صار الحلم حقيقة"، وبدأ قصّة أخرى لكفاح ضحايا النازيّة من أجل وجودهم ونجاتهم وبقائهم. تمضي السنين، تبدأ إسرائيل بالازدهار، ويظهر الوثائقيّ النموّ الاقتصادي والسكاني من خلال مقاطع فيديو تصوّر المدن المنشأة حديثًا والكيبوتسات، وفجأة تظهر جثّة لإسرائيلي بجانب قطيع من الأغنام ليقول المعلّق: "ولكن كان على البلاد أن تواجه الرفض العربيّ لتقبّلهم بالمنطقة.. وقعت آلاف الصدامات والأعمال التخريبيّة داخل إسرائيل وقتل أكثر من 400 إسرائيلي بين عاميّ 53 و56".

الوثائقيّ هو وثائقيّ ولادة إسرائيل "من رحم الحرب" على حدّ تعبير الشاعر الصهيوني حاييم غوري. القصّة التي تروي ولادة إنسان ومجتمع جديدين، مجمتع متنوّر و"مظلوميّة" شعب يهودي عانى أهوال الحرب العالميّة الثانية، في مقابل رفض عربي دائم لوجوده ورفض عربي دائم للسلام وإصرار على "إبادته" مرّة أخرى بعد الإبادة النازيّة.

العربيّة: ليس هنالك شيء اسمه حقّ فلسطيني

ربّما تُفاجأ قناة "العربية" لاحقاً بكلٍّ من ويليام كاريل وبلانش فنغر يقاضيانها لاستخدامها مصطلح "النكبة" في تسمية الفيلم، لِما فيه من إساءة بالغة في نظر الإسرائيليين إلى تاريخ "طهارة سلاحهم" ومجتمعهم المتنوّر.

قريبًا من نهاية الفيلم، يقول الصحفيّ الإسرائيلي جدعون ليفي: "يعتقد المجتمع الإسرائيليّ أنه إذا لم نتحدث عن الاحتلال فهو غير موجود"، ويبدو أنّ "العربيّة" ومن خلفها السعودية تعتقد ذلك أيضًا. قد يعتقد بعض العرب الآن، أنّ عدم الحديث عن تاريخ طويل من اللجوء وعن قضيّة فلسطينيّة عادلة امتدّت أصداؤها إلى كلّ بقاع الأرض، يجعلُ منها غير موجودة. كذلك، فإن عدم الحديث عن الاحتلال في نظر "الصهاينة الجدد" من العرب، يجعل منه غير موجودًا، وعدم الحديث عن الحقّ الفلسطينيّ، يجعلُ منه باطلًا. إلَّا أنّ المفارقة، هي في أنّ الإسرائيليين أشدُّ وعيًا بهذه الحقيقة وهم يعايشونها، من وعي العرب بها وهم من يجب أن يكونوا أصحاب القضيّة.

  الفيلم تدشين لمرحلة جديدة في الخطاب السياسي العربي، متماهٍ وخاضع للرؤية الإسرائيليّة للقضيّة الفلسطينيّة وحقائقها التاريخيّة الأبديّة  

ومن المفارقات الأخيرة، أنّ السعودية و"الصهاينة الجدد" من العرب، لم يُكلِّفوا أنفسهم صياغة بيانهم السياسيّ الجديد؛ ألا وهو الحقّ الإسرائيليّ بالأرض، بل استعاروه من صانعيّ أفلام صهيونيين، مشبعين بالخطاب الصهيوني والأيدولوجيا الصهيونيّة على عكس ما وصفت العربيّة "الوثائقيّ" في تقديمها له، معتمدة على ذريعة واهية لعرضه ألا وهي:"صور اكتشفت حديثًا". إلّا أنّ الذريعة الحقيقيّة، هي تدشين لمرحلة جديدة في الخطاب السياسي العربي، متماهٍ وخاضع للرؤية الإسرائيليّة للقضيّة الفلسطينيّة وحقائقها التاريخيّة الأبديّة.


اقرأ/ي أيضًا:

وثائقيات الجزيرة.. حكاية النكبة وحكاية الثورة

نظرة جديدة لفلسطين قبل النكبة: الاقتصاد والمجتمع

التشويه الاستعماري للبنيات الفلسطينية قبل النكبة