بعد توقف "الانتفاضة الثانية" منذ قرابة 10 سنوات، هدأت الأوضاع الأمنية نسبيًا فلانت ظروف الحركة والتنقل داخل الضفة الغربية، وتبدلت معطيات الحياة اليومية للفلسطيني، لذا بات ممكنًا القول إن الضفة الغربية دخلت مرحلةً جديدة.
من سمات هذه المرحلة التي نحن فيها اليوم، تصاعدُ وتوسعُ ما صار يعرف بالسياحة الداخلية، أو التجوالات التي باتت ظاهرة لم تعرفها فلسطين من قبل بهذا المفهوم والرواج.
أُنشئت في الضفة الغربية مؤخرًا مبادرات للسياحة الداخلية، من خلال تجوالات في مسارات تمر بالقرى والمدن والجبال والوديان
يمشي المتجولون في مساراتٍ محددةٍ، تمر بالقرى والمدن والجبال والوديان، رافعين شعاراتٍ عديدة منها ما يعنى بتمتين علاقة الفلسطيني مع أرضه، كشكلٍ من أشكال مقاومة الاحتلال الاقتلاعي.
اقرأ/ي أيضًا: عن تاريخ الصيدلة في فلسطين.. صور
وأنشئت مؤخرًا في محافظات الضفة الغربية مبادراتٌ شبابيةٌ تندرج تحت هذه الفكرة، منها مبادرة "تجوال وترحال" في جنين، التي تضم عددًا من الشبان والشابات، يقررون بشكل دوريٍ موعدًا لمسارٍ جديدٍ في إحدى المناطق الفلسطينية، ويعممون الدعوة على مواقع التواصل للراغبين بالانضمام، ثم يتجمعون صباحًا في مدينة جنين، وينطلقون بحافلةٍ تقلهم حتى بداية المسار، فيترجلون ويبدأ التجوال مشيًا على الأقدام بما فيه من مُتعٍ وتعب.
مؤسس مبادرة "تجوال وترحال" محمد جرادات، فضل إجراء الحديث لـ "ألترا فلسطين" من مكان "يمده بالإلهام ويشبه أفكاره" وفق تعبيره، فاصطحبنا إلى قمة جبلٍ مرتفعٍ يكشف مدينة جنين وجزءًا واسعًا من سهل مرج ابن عامر المبسوط في المدى كبحر من اليابسة.
يقول جرادات، إن علاقته مع المشي في بيئة فلسطين، بدأت أيام الانتفاضة الثانية، لَما كان طالبًا بجامعة النجاح في نابلس، يضطر بسبب إغلاقات الاحتلال للمشي مسافات تراوح 30 كيلو مترًا ليصل جامعته عبر الطرق الالتفافية بالجبال الوعرة.
ويُتابع: "علاقتي مع الأرض كانت بهذا الإكراه في البداية، ثم تحولت إلى ارتباطٍ وثيق عندما وجدت نفسي أتأمل تلك الوعورة وأتدبرها وأحبها أكثر مع كل مرور بها، لتتحول علاقتي مع الأرض فيما بعد إلى عشقٍ يدفعني لمبادرة فريق تجوال وترحال اليوم".
ويشرح جرادات عدة تقسيماتٍ لأغراض التجوال، في مقدمتها وأهمها بالنسبة له التعرف بمناطق فلسطينيةٍ جديدة، إلى جانب التواصل الاجتماعي الواقعي، وتكوين العلاقات بين المتجولين بعيدًا عن العالم الافتراضي، مشيرًا إلى أن "التواصل الواقعي أكثر اتساقًا مع الطبيعة الإنسانية من التواصل على الإنترنت"، وفق رأيه.
ويذكر في المجال الاجتماعي، "نمشي طوال الوقت مجموعة واحدة ونستغل محطات الاستراحة في المسارات لنجلس بشكل حلقة في إفطار جماعي، نتشارك الأكل ونتبادل الهدايا فتسود أجواء عائلية ودودة، كما نلتزم في كل التجوالات بحلقات تعارف بين المشاركين يتاح فيها لكل فرد أن يعرف الآخرين بنفسه".
ويصف فريق "تجوال وترحال" بأنهم "من كل قطر أغنية"؛ قاصدًا بذلك أنهم ينتمون لخلفياتٍ اجتماعيةٍ وفكريةٍ متنوعة، ومن عدة بلدانٍ فلسطينية كنابلس وحيفا ورام الله والناصرة وعرعرة وجنين وغيرها.
وفي البعد الثقافي المعرفي للتجوال، يذكر جرادات أنه مرّ بالعديد من سكان محافظة جنين، ولمس بمخالطتهم أنهم لا يعلمون بوجود شيء اسمه سهل مرج ابن عامر مثلًا، ومن هنا تأتي قيمة التجوال المعرفية، إذ يكون من ضمن المتجولين شخص مطّلع يشرح للبقية عن المناطق الفلسطينية وأبعادها الرمزية.
اقرأ/ي أيضًا: مسار إبراهيم.. كل ما تحتاجه لعطلة مميزة!
ومن المزارات التي مرت بها مسارات فريق "تجوال وترحال"، تل تعنك الكنعاني، ومطلات البحر الميت، ووادي القلط، ودير مارسابا، وقصور آل عبد الهادي وغيرها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أهداف التجوال ليست معالم سياحية فحسب، إنما يخرج الفريق في كثير من الأحيان بتجوالاتٍ في الجبال والسهول والتضاريس الفلسطينية لغرض الالتئام مع الطبيعة وكسب الترفيه والهرب من الروتين اليومي، مع رياضة المشي وسط هواء أنقى.
وفي سياق المعرفة، يرى سعيد أبو معلا، أستاذ الإعلام وأحد المبادرين في فريق "تجوال وترحال"، أن المميز في هذا الفريق، الذي ينطلق من جنين، استقطابه لأناس لم يهتموا من قبل في مجال الاستكشاف، ولا يعرفون مسبقًا عن المناطق التي تمر المسارات بها.
يقول أبو معلا: "تراهم مستغرقين في متعة المعرفة، وتظهر بوضوح عليهم ردةُ فعل التجربة الأولى في الالتحام مع المكان الفلسطيني المختلف عن المشهد المألوف في المدن والعمران".
ويشير محمد جرادات إلى اهتمام الفريق بالثقافة والتفكر والتأمل، إذ استضافوا في بعض جولاتهم الكاتب أسامة العيسة وناقشوا معه في الجبال، مؤلَّفَه "مجانين بيت لحم".
كما ترافق "تجوال وترحال" مع الموسيقيين أدهم خمايسة، ولؤي بلعاوي، ومحمد خمايسة، الذين تكلموا عن تجربتهم الموسيقية وعزفوا مقطوعتهم "قربان" بالناي والقانون والعود. وفي مساراتٍ أخرى، استضاف المتجولون، الفنانَ التشكيلي محمد أبو صلاح برفقة لوحاته الكرتونية، ودار النقاش حول مواضيع الرسوم المتلخصة في الأم والوطن والأرض. وناقشوا كتاب "حسن في كل مكان" لحسن حوراني.
يشارك موسيقيون وكتابٌ وفنانون في فريق "تجوال وترحال"، إضافة لفلسطينيين من الداخل المحتل
وعن دور التجوال في علاقة الفلسطيني بأرضه، يقول سعيد أبو معلا إن المتجولين يجمعون على "عيلة وحدة- إمشي ببلدك تعرفها- أصحاب البلاد يتجولون فيها- نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد - في بلد عم تكبر فينا"، معلقًا بأن هذه العبارات تختصر الحكاية.
اقرأ/ي أيضًا: السوسنة الأخيرة!
"السؤال الإشكالي، كيف نحب بلدًا وندافع عنها إذا كنا لا نعرفها؟" يتساءل أبو معلا، مشيرًا إلى أن الشباب الفلسطيني لا يعرف وطنه بشكل عام.
ويعارض أبو معلا، أن تقتصر معرفة الفلسطيني لأرضه على الحيز النظري، أي من خلال حديث الكُتب وكبار السن عنها. بل يرى أن على الفرد أن يعاين الأرض عمليًا ويشتم رائحتها ويرتمي بها حتى تتسخ ثيابه، فيدرك الأرض كما يجب.
ويقارن بين اهتمام المستوطنين بالأراضي التي يحتلونها، وبين اهتمام الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي، ويعرب عن أسفه لأنه يرى أن الاحتلال يهتم بالأرض أكثر من المحتلة أرضهم. ومن هنا يعول أبو معلا على مبادرات التجوال المنتشرة مؤخرًا "علّها تذكي من ثقافة الأرض كمعنى".
تسنيم جابر (21 عامًا)، وهي طالبة في الجامعة الأمريكية بجنين، تمتنع عن العودة في نهاية الأسبوع إلى قريتها عين حوض في الداخل الفلسطيني المحتل، الواقعة على جبال الكرمل، لتستثمر الإجازة في التجوال "بدافع الانتماء للأرض وحب المعرفة في البلاد التي تعيش فيها"، كما تقول.
تضيف تسنيم، "كسبت أصدقاء من التجوالات صاروا جزءًا من بناء شخصيتي التي انتقلت من الشخصية الهادئة التي لا تختلط بالبشر إلى شخصية اجتماعية، ثم سرعان ما تحول فريق تجوال وترحال إلى جزء مهم في حياتي، وأصبحت أنظر إليه على أنه ليس مجرد فريق مؤقت، وإنما نحن عائلة دائمة اجتمعت في هذه الأرض".
اقرأ/ي أيضًا: واد صوانيت: سحرُ النّرجس وصدى ابتهالات الرّهبان
أما مريم هنطش (20 عامًا) من عرّابة قضاء جنين، فتصف تجربتها بأنها تبدو كأول مرةٍ في كل جولة، ما يدفعها للمشاركة دائما، لتزداد دهشتها أكثر، مضيفة، "نسبة كبيرة من الأهالي هذه الأيام لا يعرفون سوى الأسواق والمطاعم، متناسين إطلاع أبنائهم على الأماكن التاريخية والأثرية والطبيعة الخلابة".
تقول مريم: "في أحد التجوالات الذي كان يتضمن السير في سهل مرج بن عامر، صرخت في نفسي لروعة ما رأيت! أين أنا عن كل هذا الجمال من قبل؟"، مضيفة، "حتى لو لم تجرب من قبل، سيراودك شعور يربطك ويشدك نحو التراب والأرض لا محالة؛ أثناء تجولك".
وتتابع، "تخيلي الأول للتجوال كان لا يزيد عن كونه رحلة لقضاء الوقت فقط. ولكن خيالي لم يكن ناضجًا كفاية على ما يبدو؛ فبعد انخراطي في الفريق توسع أفقي أكثر، فإلى جانب تحقيق غاية الترفيه، يريحني أنه يقصيني لنهارٍ كامل تقريبًا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تأكل وقتنا ولا تسمح لنا برفع عيوننا عن هواتفنا لنبصر الحياة حقًا".
ربما يناسب أن نتوقف عند مقطع لافتٍ من حديث مؤسس فريق "تجوال وترحال" محمد جرادات: "ما بدي أكون دراما بزيادة، بس ما ببالغ إذا بحكيلك إنو تفكيري بالهجرة من البلد قل كثير وشبه انعدم بسبب عثوري على عيلتي فريق تجوال وترحال الي بعتبر مبادرتي لتأسيسه أعظم إنجاز في حياتي".
اقرأ/ي أيضًا: