3628 مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزّة على مدار عام، وتحوّل القتل الجماعيّ لأهالي القطاع، إلى سياسة إسرائيليّة معلنة. في "شهادة على مجزرة"، نحاول عبر سلسلة موادّ، تناول أبرز المجازر الإسرائيليّة في قطاع غزّة، من خلال شهادات من عاش ساعات ودقائق هذه المجزرة، في سرد شخصيّ يعكس جزءًا ممّا حدث.
لم يجد الشاب عبد الحميد خضير (36 عامًا) ملجًأ يحتمي فيه مع عائلته وطفله همام المريض بالتليف الرئوي بعد قصف الاحتلال لشقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، سوى مدرسة التابعين الشرعية في حي الدرج وسط مدينة غزة، والمكتظة بالنازحين.
سبعة أشهر بالتمام أمضاها خضير داخل غرفة صغيرة فوق سطح المدرسة، التي تضم بين جنباتها قرابة 1400 نازح من أنحاء متفرقة من قطاع غزة، فيما "لم يتبادر إلى ذهنه حتى في أسوأ كوابيسه أن تُسْتَهْدَف بالصواريخ من الطائرات الحربية الإسرائيلية"، كما يقول.
شاهد على مجزرة مدرسة التابعين: انتهت عملية انتشال الشهداء، لكن بقيت رائحة الدم تفوح من جنبات المسجد المدمر
يقول خضير لـ "الترا فلسطين" كانت الحياة شبه طبيعية في المدرسة خلال أشهر الحرب، ففي ساعات الصباح كانت تعقد برامج الدراسة، وتحفيظ القرآن الخاصة بالأطفال النازحين، وفي ساعات العصر كانت تعقد فقرات الرياضة والألعاب للتخفيف عن الأطفال أهوال الحرب.
ويتابع خضير، كانت المدرسة ذات طابع مدني بالكامل، حتى إنها تابعة لجماعة الدعوة والتبليغ وهي جماعة لا تهتم بالسياسة وجل اهتمامها التركيز على تعليم وتحفيظ القرآن، وكانت أبواب المدرسة مفتوحة على الدوام أمام النازحين جميعهم من المناطق التي تقتحمها دبابات الاحتلال، أو تصدر إليها أوامر بالإخلاء.
ويضيف خضير، كان مسجد المدرسة يرفع الأذان للصلوات الخمس، ويأتي جيران المسجد للصلاة فيه إلى جانب النازحين، كما أن بعض النازحين كان يجد راحته بالاستراحة داخل المسجد خلال ساعات النهار.
مساء التاسع من آب/أغسطس 2024، أدى خضير صلاة العشاء إلى جانب مئات المصلين في مسجد المدرسة، ثم عاد إلى الفراش بعد أن اطمئن على طفله همام الذي يعاني من تليف رئوي، وكانت حالته سيئة نتيجة تصاعد سحب الدخان الناتجة عن القصف الإسرائيلي المتواصل لأنحاء متفرقة من قطاع غزة.
ويضيف خضير، مع أذان الفجر استيقظت على صوت بكاء طفلي، فكانت حالته سيئة، فقمت بوصله بالجهاز الطبي الخاص به، وانتهى المؤذن من رفع الأذان، وبعدها أقيمت الصلاة، فذهبت للوضوء بسرعة للحاق بصلاة الجماعة.
ويتابع، وأثناء الوضوء سمعت صوت الإمام يقول: استووا.. تراصوا.. يرحمكم الله.. وما أن شرع بقراءة أول آية من سورة الفاتحة، حتى اخترق صاروخان السقف الأعلى للمسجد والذي توجَد فيه غرفتي، ثم اخترقا سقف مصلى النساء، ثم انفجرت داخل مصلى الرجال.
ويضيف خضير، لقد سقطت الصواريخ بعيدًا عن غرفتي ثلاثة أمتار فقط، لكنها لم تنفجر، ثم اخترقت مصلى النساء الذي تبلغ مساحته 300 متر تقريبًا، وكان مليئًا بقرابة 40 أسرة نساء وأطفال، ولم تنفجر أيضًا، لكنها مزقت أشلاء 11 سيدة وطفلًا.
ويصف خضير لحظة انفجار الصواريخ في مصلى الرجال بأنها لا توصف في فظاعتها ورعبها، فقد انفجرت الصواريخ في لحظة واحدة، يقول: "كنا نعتقد لحظتها أنه صاروخ واحد، ثم اختلط بعدها صوت الصراخ بالدخان الرمادي الكثيف، لقد أصابتني حالة من الارتباك لعدة لحظات في ظل صراخ زوجتي وأطفالي من حولي، وأنا لا أدري ماذا أفعل؟ وأين أتوجه؟".
ويتابع خضير، في هذه اللحظة بدأت النيران تتصاعد من المسجد، فقمت سريعًا بفصل الجهاز الطبي عن طفلي، وحملته على كتفي، وطلبت من زوجتي التي كانت جالسة على الأرض من هول الموقف بأن تحمل أطفالنا، ونزلنا سريعًا باتجاه الباب الخلفي للمدرسة، حتى ابتعدنا عنها قرابة 100 متر، وعدت سريعًا لإنقاذ المصابين.
يقول خضير، لم أتمكن من دخول المسجد، فقد كانت النيران مشتعلة فيه والدخان ما زال يتصاعد بكثافة من الزوايا جميعها، ولم نكن نسمع صوت أي أحد بالداخل يوحي بأن هناك من ما زال على قيد الحياة، وما أن هدأت النيران صعقنا من هول المشهد، لقد اختلطت الأشلاء ببعضها، وتناثرت الأشلاء على الجدران وسقف المسجد، فيما كانت رائحة الدم والبارود تخنق كل من يقترب من المكان.
ويواصل حديثه، مرت بضع دقائق حتى حضرت أعداد كبيرة من سيارات الإسعاف والدفاع المدني إلى المكان، وقد سبقهم الجيران، وبدأت عملية انتشال الشهداء، وكانت الأولوية لانتشال الشهداء الذين كانت ملامحهم واضحة، ويمكن التعرف عليهم، بعد ذلك وصلنا إلى أصعب مرحلة في العملية وهي انتشال الأشلاء التي لا يمكن التعرف على أصحابها، وكانت تُجْمَع في أكياس بلاستيكية قبل أن تُنْقَل إلى مستشفى المعمداني، وقد استمرت هذه العملية 3 ساعات متواصلة تم خلالها إجلاء حوالي 100 شهيد.
وأشار خضير إلى أن عائلات الشهداء توجهت بعد ذلك إلى مستشفى المعمداني لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليهم تمهيدًا لمواراتهم الثرى، إلا أن عشر عائلات لم تجد جثامين أبنائها، الأمر الذي ضاعف من حالة الحزن التي يعيشونها، قبل أن يتم توزيع 700 كيلو جرام من الأشلاء التي اُنْتُشِلَت من موقع المجزرة في عشرة أكياس بواقع 70 كيلو في كل كيس، ومن ثم توزيعها على العائلات العشرة على افتراض أن هذه أشلاء نجلهم لدفنها.
وعن أكثر المواقف التي تأثر بها خضير خلال عملية انتشال الشهداء، يقول: "أثناء عملي مع الطواقم دخلت فتاة عشرينية المسجد المحترق، وتوجهت مباشرة إلى المكان الذي كان والدها الخمسيني يعتاد الصلاة فيه، فوجدته قد استشهد، فجلست بجانبه تحتضنه وتمسح الغبار عن وجهه وتمسح على رأسه، وتخاطبه: خلص يا بابا تركتنا وما بدك ترجع، ليش يا بابا رحت وما أخذتنا معك".
ويضيف خضير بحسرة، أكثر شيء مؤلم هو أن 80% من نساء المدرسة أصبحوا أرامل؛ لأن الرجال جميعهم كانوا يصلون الفجر جماعة في مسجد المدرسة.
ويتابع الناجي خضير، انتهت عملية انتشال الشهداء، لكن بقيت رائحة الدم تفوح من جنبات المسجد المدمر، وبدأت العائلات بالتجمع في محيط المكان مرةً أخرى، لقد كان الأمر مؤذيًا لعوائل الشهداء الذين بقوا نازحين داخل المدرسة، فحضرت طواقم الدفاع المدني، وبدأت بعملية تنظيف وبحث جديدة داخل المسجد، وأثناء ذلك عثرت الطواقم على رأس الشهيد عبد القادر البسيوني.
وعلى الرغم من المجزرة الفظيعة التي وقعت في المدرسة، يقول خضير، إن العائلات وعددها 250 أسرة (1200 نازح تقريبًا) اضطرت للبقاء فيها بسبب عدم وجود بدائل أو مراكز إيواء أخرى، وذلك على الرغم من الأذى النفسي الكبير الذي تعيشه زوجات وأطفال الشهداء.
ونفى خضير في نهاية حديثه مزاعم جيش الاحتلال من أن عناصر من حركة حماس والجهاد الإسلامي، يستخدمون المدرسة كمقر نشط ونقطة انطلاق للهجمات، مؤكدًا أن أبواب المدرسة كانت مفتوحة أمام الأسر جميعها التي كانت تنزح من المناطق التي يهددها جيش الاحتلال، كما أن مصلى المدرسة كان مفتوحًا أمام النازحين جميعهم.
وأشار خضير إلى أن فريقًا من الخبراء والصليب الأحمر عاين مكان المجزرة بعد عدة أيام، وتعرفوا على نوع القنابل التي استهدفت المصلى وهما قنبلتان من طراز "جي بي يو 39" (GPU 39)، وذلك بعد معاينتهم للأجزاء المتبقية من هذه القنابل.