حسناً إنها نوبة حزنٍ طويلة. وعندما يطول الحزن ولا يبدو له مخرجًا فإن التعامل معه يتحول من مجرد وقتٍ صعبٍ ويمر إلى نمط حياةٍ شبه دائم. عليك أن تجد طريقةً ما لتعيش حياتك الجديدة، بينما يُلصق الحزن رأسه برأسك طوال الوقت. ستُغير نفسك إن لم تستطع أن تغير حياتك. حتى تصبح أنت مناسبًا أكثر لها. ستُعيد تعريف الأشياء بما يناسب حياتك الجديدة. فإذا فقدت بيتك وأصابك الجوع وليس معك أي مالٍ في جيبك، سيصبح مفهوم الشبع لديك هو أي رغيف خبزٍ يقدمه لك مركز إيواء المشردين. إذا كنت فلسطينيًا فإن الفرح بالنسبة لك كخبز الجائعين، لا يهم أن يكون ناشفًا أو طريًا، أن يكون صالحًا للأكل أو متعفنًا لا يهم من يقدمه لك، وكيف ولماذا يقدمه. المهم أن يكون هناك خبزٌ لأن الجوع كافر.
إذا كنت فلسطينيًا فإن الفرح بالنسبة لك كخبز الجائعين، لا يهم أن يكون ناشفًا أو طريًا، المهم أن يكون هناك خبزٌ لأن الجوع كافر
الجوع للفرح هو أشد أنواع الجوع إيلامًا، وهو أخطرها أيضًا، لأنه يُعرض الجائع للاستغلال نظرًا لإدراك من حوله لحاجته للفرح. عندها ستتم إعادة تعريف الفرح باستخدام مفاهيم ومصطلحاتٍ أكبر أو أصغر منه، أو ربما سيتم استخدام الكلمات في مكانٍ خاطئٍ لمجرد أن تكتمل الصورة، حتى لو كانت في النهاية صورةً مشوهة، المهم أن تكون كاملة.
اقرأ/ي أيضا: لا بد أن يكون الوجع العام دائمًا بخير
لقد أصبح البحث عن الفرح وقطعه الناقصة في حياتنا هو الهدف، فقد ملّ الفلسطينيون أن لا يُذكر اسم فلسطين دائماً إلا في نشرات الأخبار، في الأزمات والكوارث. وبات مجرد ترديد اسم فلسطين ورؤية علمها في التلفاز دون حزنٍ، ودون دماءٍ، ودون أخبارٍ سيئةٍ هو الفرح.
منذ سنواتٍ ومع تزايد شعبية مجموعة قنوات الـ (MBC) في العالم العربي، باتت البرامج الفنية التي تدعم المواهب جزءًا أساسيًا مما يتابعه المشاهدون ويتحمسون له. فالبرامج التي تُعرض بشكل سنوي استطاعت أن تخلق لنفسها شعبيةً عاليةً ونسبة مشاهدةٍ خيالية منذ عرض حلقاتها الأولى، وذلك لطبيعتها المسلية، ولاستضافتها أبرز نجوم الفن العرب. وأن ترى شاب/ة يقف على مسرح واحدة من أكبر المحطات التلفزيونية في العالم العربي ويتحدث بلهجة فلسطينية لا يسمعها العالم كثيرًا، إلا في التقارير الاخبارية المؤلمة، فهذا موقف عاطفي بامتياز. وإلى هنا يفترض أن تنتهي لعبة المشاعر الوطنية وأن لا تذهب أبعد من ذلك. أليس كذلك؟
المشاركة في برامج المواهب قرارٌ شخصيٌ وهو جريءٌ نوعًا ما، خاصة إذا كنت تنتمي إلى مجتمعٍ لا يستطيع أن يرى قراراتك مهما كانت شخصيةً إلا كسلوك يمثله هو. فلسطينيًا، ستجد الداعمين للمشاركة بمثل هذه البرامج، وستبلغ بهم الحماسة إلى حد أن يعبروا عن فوز المتسابق الفلسطيني كحدثٍ وطنيٍ مهمٍ، وسيعاملونه كنصرٍ للفلسطينيين، وكدليلٍ على حب الشعب للحياة، والكثير من المصطلحات الواسعة التي تكبر حجم الحدث بالكثير من المقاسات، فيحولون المشترك الذي جاء للغناء إلى معجزةٍ ستحل مشاكل البلاد وتعيد ترتيبها، وهذا ما يحدث في البلاد التي يبدو أفقها خاليًا من الحلول، عندها يصبح التعلق بالأشياء غريبًا ومبالغًا فيه، ويصبح التفنن بخلق الأمل هو شيء يتقنه الجميع. مثلما حدث مع محمد عساف الفائز بلفب محبوب العرب في موسمه الثاني عندما سأله صحفي عما إذا كان فوزه سيساهم في إنهاء الانقسام الفلسطيني!
في المقابل، فإن المعارضين للبرنامج سيستخدمون أيضًا كلماتٍ كبيرةٍ لا تليق بحجم الحدث، ولكن هذه المرة ستكون كلماتٍ لئيمة. على سبيل المثال، سيقول أحدهم إن مثل هذه المشاركات تدلل على الابتعاد عن الطريق الصحيح في معركتنا نحو الحرية. وهي مثلها مثل الكثير من العادات والظواهر المجتمعية السيئة التي تسببت في تأخر النصر الإلهي للفلسطينيين. وآخر سيقول بأن الغناء والرقص على المسارح لا يليق بشعب لديه قضية. وأن هذا أمرٌ مخزٍ، وهذا الشاب لا يمثل الفلسطينيين وتاريخهم النضالي. ولأن وسائل التواصل الاجتماعي منحت الجميع القدرة على الحديث مع الجميع، فإنك سترى كل هذه التعليقات والكثير من الحروب بين الفريقين أسفل كل صورة أو خبر عن الفلسطينيين المشاركين بالبرنامج.
التعامل مع المشاركة الفلسطينية في هذه البرامج كحدث وطني – وهذا ما يفعله المعارضون والمؤيدون للبرنامج- جعل التمييز بين أخبار البلاد وإعطائها حجمها الحقيقي مهمة صعبة. وبات التفاعل مع الأحداث الوطنية الكبرى الحقيقية فيما بعد لا يأخذ حقه ولا يُعطى حجمه. لقد اختلطت الأمور علينا وبات التعامل مع كل حدثٍ أو فكرةٍ أو قضية جديدة يخلق الكثير من الغصب والخصام الذي يستخدم فيه المتخاصمون ذات الكلمات الوطنية وكأنها ملكهم وحدهم. هذه الكلمات بدأت تفقد قيمتها وتأثيرها بسبب كثرة استخدامها وتكرارها في كل حدث وأي مناسبة يشارك فيه فلسطيني.
بات التعامل مع كل حدثٍ أو فكرةٍ أو قضية جديدة يخلق الكثير من الغصب والخصام الذي يستخدم فيه المتخاصمون ذات الكلمات الوطنية وكأنها ملكهم وحدهم
الجنسية من الكلمات التي يتسلل بها البرنامج إلى قلب المشاهد. ستجد السعوديون يتحمسون للمشترك السعودي، والسوريون للسوري والمغربيون للمغربي وهكذا، حتى يعلق أكبر عددٍ ممكن في لعبة التصويت. ففي النهاية الموضوع تجاري وهذه البرامج ربحية. ويمكن لجنسيتك أن تكون مفيدةً أكثر إذا كانت بلدك تعاني من ويلات الحروب. عندها يصبح الفرح بشكل جماعي بسبب الانتماء للوطن حدثًا نادرًا، وهنا تكمن فكرة هذه البرامج التي تبيع الفرح للمحرومين منه. فيصبح التصويت للمتسابقين مثل شراء سلعةٍ لا تحتاجها، تشتريها لتشعر نفسك بالفرح بينما أنت عاجزٌ عن حل مشاكلك الحقيقية لتحصل على فرح حقيقي.
غالباً لا يفرح الفلسطينيون بشكل جماعي بسبب جنسيتهم. لا يفعلون ذلك كثيرًا، وعندما يحصل يُتوقع أن يكون ذلك بشكل مهووسٍ ومبالغٍ فيه، نظرًا للخسارة الدائمة التي نعيشها. قد نبكي الشهداء ونبكي خروج متسابق من البرنامج بذات الدموع. قد نضحك ونبكي على ذات الخبر، قد نبكي من شدة اليأس وقد نضحك أيضًا من شدته أحيانًا، وهذا ومهما بدا قاسيًا، إلا أنه قد يكون طبيعيًا في بلاد كل شيء فيها مشوش وغير مفهوم، ولا يبدو له نهاية.
عندما فاز محمد عساف بلقب محبوب العرب في الموسم الثاني من البرنامج، قالت له صحفية: "أنت أجمل خبر عاجل من فلسطين". ولا أعلم لماذا تصيبني هذه الجملة بالكثير من العواطف المتناقضة! فالخبر العاجل بالنسبة لنا له هيبةٌ وتأثيرٌ لا نريده أن يخفت أبدًا. نريد لذلك الوقع المخيف له أن يظل في قلوبنا بكامل الجدية والخطورة التي عهدناها. وفي ذات الوقت أحببت جملة "أجمل خبر عاجل" وتمنيت لو أسمعها أكثر، وفرحت للشاب البسيط ذو الصوت الجميل، رغم أنني لست من محبي البرنامج، وأقصى ما أراه فيه شبابٌ يسعون لتحقيق أحلامهم بجرأة أحييهم عليها، وأتمنى لهم دائمًا السلامة في الحياة الجديدة التي ستجلبها لهم أضواء المسارح، ومن أن يكونوا جزءًا من برامج ربحيةٍ ضخمةٍ مثل محبوب العرب.
ولكن إلى الذين ستطول نوبة حزنهم إلى الأبد، أرجوكم لا تساوموا على فرحكم.
اقرأ/ي أيضا: