26-يونيو-2018

أثار الارتفاع الجنونيّ لأسعار البندورة، موجة استياء واسعة، تخللها دعوات لمقاطعتها وتغييبها عن مائدة المطبخ الفلسطينيّ، إلى أن يهدأ هذا الجنون السعريّ. البندورة/ الطماطم أو ما أطلق عليه "الذهب الأحمر" مؤخرًا، تُعدّ من الفصيلة الباذنجانية، وهي مكوّن أساسيّ على المائدة الفلسطينية؛ تدخل في الأطباق والمقبلات، نيّة أو مطبوخة، في الشوربات والسلطات، ولا تغيب عن المشويات والصواني، وتفنن الناس في عصرها وتجفيفها، وتعتبر علامة فارقة في تاريخ فنّ الطبخ، وشاهدٌ على تغيّر أذواق المجتمعات في الأكل.

تُشير الروايات إلى أن أمريكا الجنوبية؛ تحديدًا المكسيك والبيرو هي الموطن الأصلي للبندورة، وأنّ المستكشف الاسباني هرنان كورتيز (1485 - 1547) نقلها من هناك إلى أوروبا خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، ثم نقلها البرتغاليون للعالم القديم زمن الاستعمار. وفيما بعد صرنا نعرف الصواني واليخنة والسلطة وقلاية البندورة، وصولًا إلى "الكاتشاب".

قيل للخجول "وجهك زيّ البندورة"، وللفتاة ذات الخدود المُورّدة بالحُمرة "مثل زر البندورة"

واللطيف في تاريخ البندورة أنّها رُفضت في آسيا وأوروبا وأفريقيا، والجزر المحيطة بها، في البداية، باعتبارها من الثمار السّامة، ونُسب لها صفات عجيبة جعلتها مبغوضة وغير مُرحّب بها. مثلًا؛ ادّعى الأوروبيون أنها تثير الشهوة الجنسية وقالوا عنها "تُفاحة الحب" أو "درّاقة الذئب"، وقد حُصر استعمالها في أوروبا بداية ظهورها في الأسواق، بالزينة والصيدلة بدرجة أولى، قبل أن تعرف قيمتها الغذائية، وتبدأ بالتسلل تدريجيًا عبر الفقراء للمطبخ الإيطالي أولًا ثم المطابخ الأوروبية فالعالمية.

اقرأ/ي أيضًا: فوائد عصير البندورة

ويشير جان أنتيلم بريّا سافاران (1755- 1826) وهو واحدٌ من أشهر الذّواقة الفرنسيين بأن باريس لم تعرف البندورة قبل العام 1790. أما في بلدان شرق أوروبا فقد كان رجال الدين مُنشغلين في الحديث عن حرمة هذه الثمار باعتبارها من فصيلة (اللفّاح المُحرم).

وقد شاع في العالم في حينه خطر هذه الثمار وضررها وعلاقتها بإثارة الغرائز الجنسية، حتى أن بقايا هذا الإعتقاد لا تزال سائدة في بعض مناطق افريقيا، إذا يعتقدون بمنافعها الجنسية.

عربيًا؛ يُقال أن البندورة وصلت للمغرب العربي في القرن السابع عشر، والذي رفضها بدوره تأثّرًا بالرواية الأوروبية، ثم تلقى الشرق العربي هذه الثمار منتصف القرن التاسع عشر بنوع من الريبة والتوجّس، فأطلقوا عليها اسم "الإفرنجي"، واختارت بلاد الشام لها اسم "بندورة" من الكلمة  الإيطالية "Pomma Dorra" التي تعني التفاح الذهبي، أما مصر فقد سمتها "طماطم" من التسمية الإنجليزية Tomato.

وذكر المؤرخ خير الدين الأسدي عن علاقة العرب بالندورة، بالقول أنها زُرعت في حلب سنة 1851، وأنّ الناس في حينه تجنّبوا أكلها ناضجة، وأن النسوة كُن يُغطين وجوههن عند رؤيتها!

[[{"fid":"72461","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":427,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

ولعلّ أعجب وصف للبندورة، ورد  في كتاب "حلب في مئة عام 1850- 1950" للباحثين محمد فؤاد عينتابي والدكتورة نجوى عثمان، وجاء فيه: "في هذه السنة ظهر في حلب بقلٌ باسم (باذنجان إفرنجي) أو باسم (بنادورة) أَحضَرَ بذره من مصر أحد التجار وَزُرِعَ في حَلب فأنجب وأخصب، غير أن الحلبيين لم يألفوا أكله في أول ظهوره، بل كان بعضهم ينفر منه، حتى أن بعض البسطاء كان إذا رآه أو ذُكر في حضوره ينطق بالشهادتين توهمًا منه أنه من الخضر المحرمة التي اخترعها الفرنج، وكان النادر من الناس إذا رضي بأكله يقتصر على الأخضر مطبوخًا ويتحاشون الأحمر منه لإعتقادهم أنه يسبب الأمراض. ومع الأيام ألف الناس أكله وصاروا يتحاشون الأخضر منه ولا يستعملونه إلا مُخللًا وأقبلوا على استخدام الأحمر الناضج إقبالًا زائدًا حتى صاروا يعملون منه عصيرًا يدّخرونه للشتاء لتطيب أطعمتهم التي لا تلذ في أذواقهم إلا بعد أن يضاف إليها شيء منه".

اقرأ/ي أيضًا: 5 أطعمة تمنحك سمرة طبيعية هذا الصيف

ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، صارت البندوة مرغوبة ومطلوبة، وتزرع في غالبية الدول العربية، وبدأ الحديث عن أهميتها وفوائدها الصحية وبدأت تظهر فنون طبخها وإعدادها، وأبدعت مجتمعاتنا المحلية في طرق تخزينها إمّا بالتجفيف تحت أشعة الشمس أو بعصرها (رُبّ البندورة)، وصارت من الخضار التي لا يُستغنى عنها في المطبخ.

وفي الأرياف الفلسطينية كانت البندورة إلى وقت قريب تُعد من المزروعات الصيفية كالبامية والكوسا والفقوس والعُصفر والبطيخ، وذلك قبل أن نعرف الزراعة في البيوت البلاستيكية، بحيث تتوفر هذه الثمار طوال العام. والذاكرة الزراعية في فلسطين تُميز بشكل كبير بين أنواع ومذاق البندورة البلدية التي كانت تزرع في السهول وحواكير البيوت عن البندورة التي يتم إنتاجها هذه الأيام.

[[{"fid":"72462","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":427,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

ولعلّ من الطريف أن نُشير هُنا إلى أن "قلاية البندورة" التي يعتبرها البعض رمزًا لتراثية الأكل الشعبي في الريف الفلسطيني، ويُسارع الناس لإعدادها في البرية كدلالة على علاقتهم مع المطبخ الشعبي، هي في أصلها طبق إيطاليّ، ووردت أول إشارة تاريخية للقلاية سنة 1544 حيث روى الطبيب الإيطالي بيتروس ماتيولوس (1501- 1577) أنه كان في ايطاليا من يقلي البندورة كالفطر، بقليه بزيت الزيتون مع تمليحه وتطييبه بالتوابل.  

"فغم" من الكلمات المحكية المرتبطة بالبندورة دون سواها من الثمار؛ فيقال: "فغم البندورة"، أي التهمها التهامًا

ولم تتأخر البندورة/ الطماطم في الدخول لمحكيات الناس ولسانهم الشعبي، فصار يُقال للرجل كثير الخجل الذي يحمرّ وجهه "وجهك أحمر زي زِر البندورة"، ولأنّها صغيرة الحجم ودائرية وليست طويلة قيل في المثل "خذ المليحة ولو كانت حَبة بندورة"، ووُصفت خدود الصبايا الجميلة المورّدة بالحُمرة بأنها مثل "زِر البندورة".

والبندورة لا تغيب كسلاح يُقذف به الممثلون الفاشلون على خشبة المسرح، وكذا الفاسدون المُتاجرون بقوت الناس.


اقرأ/ي أيضًا:

في مُدونة "الشيف المُتنكر" القصة تزيّن الطبق

ورق العنب والحمص والتبولة.. طعام إسرائيلي!

فيديو | هل تثق بما تأكل؟