كانت الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، تقترب من الإفلاس، عشية إصدار وعد بلفور، فالمهاجرون اليهود إلى فلسطين كانوا يصلونها بأعداد قليلة، ومعظمهم لا يستطيع الصمود، فيهاجرون مجددًا إلى مصر والولايات المتحدة، فيما كان القادة الصهاينة ينتظرون تفكيك الدولة العثمانية؛ بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأحد أولئك القادرة كان حاييم وايزمان، الذي قدم اختراعًا هامًا لبريطانيا خلال الحرب، وطلب مقابله دولة لليهود.
100 عام مرّت على إعلان بلفور الذي أفضى إلى نكبة فلسطين، ويمكننا الاطلاع على تسلسل الأحداث التي أدت لإصدار هذا الإعلان، من خلال سلسلة أفلام وثائقية بعنوان "عامود النار"، أنتجتها سلطة البث الإسرائيلية في ثمانينات القرن العشرين، وكرّست لإنتاجها موارد مالية كبرى، من أجل توحيد الرواية التاريخية التي تلقنها للإسرائيليين في المدارس والجامعات، وعبر قنوات التلفزة، ومعاهد تعليم العبرية للمهاجرين الجديد الذين تجلبهم من أصقاع الدنيا.
اختراع الصهيوني وايزمان حلا لمشكلة بريطانية كبرى تمثلت في نقص مادة الاسيتون التي تستخدم في الذخيرة، وطلب مقابل ذلك دولة لليهود
ويشير الفلم الذي شارك في إعداده مؤرخون يهود، إلى أن مساهمة وايزمان في المجهود الحربي البريطاني، جذبت إليه انتباه الأوساط السياسية في لندن، عندما أوجد حلاً لمشكلة النقص في مادة الاسيتون الضرورية لتصنيع الذخائر، في أصعب اللحظات التي مرت على بريطانيا خلال الحرب. آنذاك، سأل وزير التصنيع العسكري البريطاني ديفيد لويد جورج، وايزمان، ماذا يريد مقابل خدماته العلمية لبريطانيا، فرد وايزمان: "أريد أرضًا لشعبي".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | بريطانيا فخورة بإقامة إسرائيل ولن تعتذر عن وعد بلفور
ويعد وايزمان واحدًا من أهم الناشطين في الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وهو يهودي من أصل روسي، هاجر إلى بريطانيا ودرس هناك الكيمياء في جامعة مانشستر، وقد تولى رئاسة المنظمة الصهيونية منذ عام 1920 وحتى عام 1946، ثم أصبح في عام 1949 أول رئيس لـ"دولة إسرائيل".
تلقى لويد جورج طلب وايزمان بحماس، وتبنى فكرة تهجير اليهود إلى فلسطين، إذ كان متعصبًا جدًا للرواية التوراتية وتفسيرها الصهيوني، حسب ادعاء فلم "عامود النار"، الذي زعم أيضًا أن اللورد الأول آرثر بلفور، كان أيضًا صديقًا للصهيوني وايزمان، وكان رئيسا للحكومة التي عرضت على اليهود، قبل 14 عامًا من ذلك الهجرة إلى أوغندا، لكن هذه العلاقات، وجهود وايزمان لم تثمر حتى تلك اللحظة عن تحقيق آمال الصهاينة، فصاحب القرار هو هربرت اسكوين رئيس الحكومة البريطانية حينها، ولم يكن يرى فائدة لبلاده من تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود.
انقضت أول سنتين من الحرب العالمية الأولى دون أن تحقق الحركة الصهيونية أيًا من أهدافها، وفجأة، في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1916، وقعت ما وصفها فلم "عامود النار" بأنها "معجزة تاريخية" صبت في صالح الصهاينة، إذ اضطر اسكوين إلى الاستقالة من منصبه، وأصبح أهم منصبين في إدارة الحرب العالمية الأولى بيد أصدقاء الصهيونية، وهما لويد جورج وبلفور، وفي تلك الفترة طُرحت على جدول الأعمال فكرة السيطرة على قناة السويس، وقد قررت الحكومة البريطانية الجديدة، (دون أي علاقة بالصهيونية)، احتلال فلسطين.
بعد ذلك، تُبرز الرواية الصهيونية فشل محاولات جيش البريطاني في احتلال فلسطين من ناحية غزة، ثم تنسب لـ"نيلي" وهي شبكة تجسس أقامها المستوطنون في فلسطين دورًا مهما في نجاح الجيش البريطاني باحتلال مدينة بئر السبع، بعد عجزه عن احتلال غزة.
منظمة للمستوطنين ساهمت في احتلال بريطانيا لمدينة بئر السبع، بعد فشلها في احتلال غزة، وبعد ذلك بيومين جاء إعلان بلفور
وفي الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1917، أي بعد يومين من احتلال بئر السبع، فيما كان فرسان الجنرال ألنبي يسارعون صوب القدس، كتب وزير الخارجية البريطاني بلفور، ما وصفه "إعلان تأييدٍ لتطلعات الحركة اليهودية الصهيونية". جاءت الجملة المفتاحية في الإعلان على النحو التالي: "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي". وفي السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر سقطت يافا، ثم توجهت القوات البريطانية نحو القدس، ليتم احتلال لها في التاسع من كانون الأول/ديسمبر.
في شهر نيسان/إبريل عام 1918، أي بعد أربعة شهور من احتلال القدس، وصل المدينة وايزمان، على رأس الوفد الصهيوني الذي كان يُسمى "لجنة المندوبين"، وهي اللجنة القيادية الصهيونية. نظم اليهود استقبالاً حافلاً للمندوبين الصهاينة، فيما عينت السلطات البريطانية لوايزمان ضابط اتصال، هو اديفين صامويل.
"وصول الوفد الصهيوني للقدس كان يعني أنه سيتم البدء بتنفيذ وعد بلفور، والمقاومة العربية 1921"، كما أكد أديفين صامويل خلال شهادته في "عامود النار".
تجدر الإشارة إلى أن الرواية الإسرائيلية عن صداقات وايزمان والصهاينة مع بلفور ولويد جورج، تخالفها روايات أخرى لمؤرخين بعضهم يهود، إذ تؤكد مصادر عديدة أن بلفور تحديدًا كان كارهًا لليهود ومعاديًا لهم، وأنه عندما شغل رئاسة الحكومة البريطانية بين عامي 1903 – 1905، هاجم اليهود المهاجرين إلى بريطانيا "بسبب رفضهم الاندماج مع السكان"، ثم استصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية، "بسبب الشر الأكيد الذي سيلحقه هؤلاء ببلاده" وفق اعتقاده.
اقرأ/ي أيضًا: