لم تكن الحاجة فاطمة الزيني (73 عامًا) تتخيل أن تتغير قناعتها تجاه الصور الفوتوغرافية المطبوعة على الورق، لتفضل عليها خلال السنوات القليلة الماضية، تلك الصور المُلتقطة بواسطة هاتف ذكي. فالزيني حتى وقت قريب، كانت تُصر على شراء فيلم "نيغاتيف" لكاميرا تقليدية جلبها لها شقيقها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لتوثيق احتفال عائلتها في الأعياد، فتلتقط صورها المميزة مع أبنائها و أحفادها.
تقول الزيني إن هذه الصور عفوية وتحمل مفاجآت مضحكة تظهر بعد طباعتها في الاستديو، أما اليوم وبعد أن سافر أكبر أبنائها وأعز أحفادها، فقد أصبحت لا تستغني عن صور الهاتف الذكي، لتصبح كما غيرها من أبناء قطاع غزة تفضل صور الهواتف الذكية التي لا تكلفهم المزيد من المال في ظل تدهور الوضع الاقتصادي.
أصحاب استديوهات تصوير في قطاع غزة يشتكون من تأثير سلبي تركته الهواتف الذكية على عملهم
وفق مصورين وأصحاب استديوهات، فإن حالة الشغف باقتناء الهواتف الذكية أثرت سلبًا على عملهم، إذ لم يعد يزورهم إلا القليل جدًا من الناس ما يُهدد استمراريتهم ويُضاعف خسائرهم المالية.
اقرأ/ي أيضًا: كريمة.. المصورة الفلسطينية الأولى
عصام وادي، مصور فلسطيني، بعد رحلة عمل طويلة في التصوير الاحترافي لدى وكالات الأنباء، قرر عام 2005 افتتاح مؤسسته الخاصة للتصوير الفوتوغرافي باسم "استديو القدس"، فكان الأشهر باعتباره أول من أدخل كاميرات الديجيتال المتطورة إلى مدينة خان يونس.
مرت السنوات الأولى جيدة على مشروع وادي وحقق ربحًا زيادة على رأس المال، لكن السنوات الخمس الأخيرة لم تكن كما يجب، والأسباب لديه متنوعة تتراوح بين تأثر كافة القطاعات الاقتصادية بحالة التدهور التي لحقت بجوانب الحياة في القطاع، وكذلك انتشار الهواتف الذكية بشكل كثيف، حتى لا يكاد يخلو بيت منها. يقول: "هذه التكنولوجيا أثرت على عمل الاستديوهات بشكل عام، فأصبح الناس يوثقون يومياتهم من خلال كاميرا هواتفهم ولم يعودوا بحاجة إلى ارتياد استديوهات التصوير كما في السابق".
ويُشاركه الرأي ضياء الآغا، وهو مصور ويملك استديو تصوير في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، إذ يقول إن الإقبال المستمر على الهواتف الذكية وتطور تقنيات صناعة الكاميرا المدمجة بها "يكاد يفتك بعملنا لولا حالة التطوير والمواكبة المستمرة التي نجريها على الاستديو، سواءً على صعيد اقتناء الأجهزة الأكثر تطورًا أو الكادر المهني".
وعلى الرغم من العزوف الملحوظ عن ارتياد استديوهات التصوير، إلا أنّه لا يُمكن القول بانعدام دورها أبدًا، فبحسب ما أفاد وادي تبقى حالات لا يُمكن لكاميرا الهواتف الذكية أن تُلغيها كالتصوير الفوتوغرافي للمعاملات الرسمية، والأيام الخاصة كحفل الزواج.
ويتفق معه بالرأي المُصور الآغا، فقد أوضح أن البعض ما زال يُفضل الاحتفاظ بالصورة كـ"كارت ورقي" لضمان بقائها، لافتًا أن البعض يأتي بذاكرة الهاتف لسحب الصور الرقمية على ورق خشية من تلف الهاتف أو امتلاء ذاكرته.
يبقى لاستديوهات التصوير أهميتها في صور المعاملات الرسمية، وحفلات الزفاف
أما المصورة فريال عبدو - التي تعمل لدى وكالة APA للتصوير بمدينة غزة - فتُشير إلى أن التصوير بالهواتف الذكية أكثر تداولًا بين فئة الشباب لتوثيق ذكرياتهم الجميلة، بل حتى أي موقف يتعرضون له في الشارع لمشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي. وتنفي فريال أن يكون ذلك أثر على انهيار استديوهات التصوير أو ألغى وجودها نهائيًا من سوق العمل الفلسطيني، وإن كان له تأثيرًا سلبيًا على حجم الزيارات بهدف التصوير، "يبقى للاستديو ميزته الخاصة في تصوير مشاهد الزفاف على الأقل" كما قالت.
اقرأ/ي أيضًا: كاميرا عبيدة جمال في جنات وعيون
فيما تُشجع ياسمين فايز التصوير عبر هاتفها الذكي، فهي تشعر أن صورها تكون أجمل حين تأخذها لنفسها أو مع صديقاتها عبر الكاميرا الأمامية المزودة بهاتفها (سيلفي). تقول: "الصورة تكون طبيعية خالية من مشاعر القلق التي تنتابني أمام كاميرا مصور الاستديو"، مضيفة أن وجود برامج منوعة لتحسين الصور يمنحها شغفًا أكثر بأن تُجرب المزيد للحصول على صورة مميزة تحتفظ بها على ذاكرة هاتفها، أو تشاركها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تؤكد ياسمين أن حالة الانفتاح التي شهدتها المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة استطاعت أن تُغير الكثير من القناعات المجتمعية، ومنها تصوير الفتيات لأنفسهن، وتصوير الاجتماعات العائلية أو المناسبات الخاصة، وبعض المواقف العفوية التي تخلد في الذاكرة.
فيما يعتقد الشاب محمد فارس أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي "شكل تهديدًا هامًا وخطيرًا" على استديوهات التصوير، ويستند في رأيه إلى أن الكثير من المصورين من فئة "FreeLance" يملكون صفحات إلكترونية خاصة بما يُصورونه من أحداثٍ ومشاهد سواءً بكاميراتهم الرقمية، أو بكاميرات هواتفهم الذكية.
يقول فارس - الذي يدرس تخصص إنتاج الوسائط المتعددة في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية - إن "هذه الظاهرة أخرجت الجمهور من نطاق التصوير الضيق بين جدران الاستديو وخلفياته المحدودة إلى فضاء الطبيعة"، مضيفًا أن الكثير من الشبان والفتيات خلال حفلات زفافهم أو تخرجهم أو مناسباتهم الخاصة كأعياد الميلاد يعمدون إلى التعاقد مع أحد مصوري الـ"FreeLance" من أجل التقاط بعض الصور في الطبيعة بما يُعرف "جلسات تصوير خارجي".
جلسات التصوير الخارجي مع مصوري الـ"FreeLance" تُهدد بجدية عمل الاستديوهات
ولأجل ذلك، يتفق أصحاب الاستديوهات في غزة على ضرورة مواكبة التطور في فنون التصوير لضمان استمرارية وجودهم في السوق الفلسطينية. فالمصور وادي يجتهد دومًا في تجهيز الاستديو الخاص به بأحدث الكاميرات الرقمية ليتميز بالجودة والدقة عن كاميرات الهواتف الذكية، كما يحاول عبر طاقم المصورين ابتداع لوحات جديدة للتصوير تتماشى مع روح العصر، وهو يرى أن ذلك يجذب هواة الدبلجة.
اقرأ/ي أيضًا: محمد وبشير متشردان في طبيعة عذراء
وأضاف أنه يحرص دومًا على تجديد خدماته بما يتلاءم مع اهتمامات الشباب، "ولذلك أدخل إلى نطاق عمله طباعة الصور على المجلات والقماش والزجاج لجلب زبائن جدد".
أما الآغا فاختار طريق المواجهة عبر تحقيق التميز في مجال تصوير الفيديو لحفلات الشباب والأعراس، باعتبارها ذات جدوى مالية أكبر من التصوير الفوتوغرافي. "فعادًة ما يقتصر التصوير الفوتوغرافي على عدد محدود من اللقطات لا تتجاوز العشرة بتكلفة 10 شيكل للقطة الصورة الواحدة، بينما تكلفة الفيديو تُقدر بساعات التصوير إضافًة لعمليات المونتاج والمكساج والتصميم" وفق قوله.
ويرى الخبير الاقتصادي معين رجب، أن كاميرات الهواتف الذكية "أشبعت رغبة بل وهوس الشباب بالتصوير، وحالت دون وصولهم إلى الاستديوهات لالتقاط صورٍ أُسرية أو صورًا لمناسبات خاصة". وقال لـ الترا فلسطين، إن هوس الشباب بالتصوير ينتهي في حافظة الجوال ومواقع التواصل الاجتماعي، ما يُسبب خسارة لأصحاب الاستديوهات، فلم تعد مهنتهم تجلب المال الذي يُغطي نفقاتهم التشغيلية".
وشدد على أن كل تطويرٍ في كاميرات الهواتف الذكية يفرض منافسة شديدة تُحتم على أصحاب الاستديوهات إيجاد الأفضل، وهو ما يتعسر عليهم أحيانًا في ظل إغلاق المعابر وعدم السماح من قبل الاحتلال الإسرائيلي بإدخال بعض أنواع الكاميرات الدقيقة، خشية من "الاستخدام المزدوج". وأضاف، "العائد المادي الضئيل للاستديو وتراجع نسب الأرباح من شأنه أن يُنهي أي عملية تطوير باستقدام أحدث أجهزة التصوير".
واستبعد رجب أن تلغي كاميرا الهواتف الذكية الاستديوهات تمامًا، "بل تتراجع بنسب كبيرة خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الذي يُعانيه القطاع بشكل عام"، مشددًا على ضرورة أن يتكيف أصحاب محال التصوير مع السوق، وأن يبحثوا عن مكان لهم في ظل التطورات الحديثة بتحسين خدماتهم وتطويرها بما يُشبع هوس الشباب بالتصوير وتسجيل لحظاتهم وذكرياتهم الجميلة.
اقرأ/ي أيضًا:
في غزة.. الأزمة الاقتصادية تُجهز على مهنة القزازين