ما زال يخيم على الذهن الجمعي أخطر مخططات الاحتلال التي لا زال صداها يتردد حتى الآن، فعلًا وتنفيذًا، إذ لم تنفك المؤسسة الرسمية الإسرائيلية منذ أكثر من أربعة عقود على تنفيذها بحذافيرها. ولعل المراجع لأبرز أطروحات السلام الإسرائيلية (1990-1993-1999-2008) سيلحظ أنها كلها لم تحد أبدًا عن الخطوط العريضة المقررة في هذه الخطط: سيطرة مطلقة على السفوح الشرقية (دواعٍ أمنية)، والمحافظة على تكتلات استيطانية (لاعتبارات جغرافية وديمغرافية)، وضم القدس (لاعتبارات أيديولوجية). هذا ما قدمته أبرز خطتين استيطانيتين، جرت على تفاصيلها كل مخططات الاحتلال حتى اللحظة: خطة إيغال ألون 1967، وخطة متتياهو دروبليس 1977.
المراجع لأبرز أطروحات السلام الإسرائيلية (1990-1993-1999-2008) سيلحظ أنها كلها لم تحد أبدًا عن الخطوط العريضة المقررة في هذه الخطط: سيطرة مطلقة على السفوح الشرقية (دواعٍ أمنية)، والمحافظة على تكتلات استيطانية (لاعتبارات جغرافية وديمغرافية)، وضم القدس (لاعتبارات أيديولوجية)
تحاول هذه المقالة أن تجيب على سؤال: ماذا تعني حالة فوضى نشر أخبار "المخططات الاستيطانية الكبرى" التي تتكفل صحف الاحتلال بنشرها بشكل مستمر وبأوقات متقاربة في الإعلام؟ وبالنظر إلى هذه المخططات عن قرب، يتبين دائمًا أنها تعطي انطباعًا سوداويًا لواقع الأرض الفلسطينية ومآلاتها، تحديدًا في القدس والمناطق المصنفة ج، فغالبًا ما تقترح هذه المخططات تغييرًا جذريًا وهائلًا على الأرض، سواءً في عدد الأبنية الاستيطانية التي تهدف إلى بنائها، أو سيطرة على مئات آلاف الدونمات الفلسطينية، أو أرقامًا خيالية من أعداد المستوطنين المنوي استجلابهم لمستوطنات الضفة الغربية.
قبل عام بالضبط، استرعى انتباهي تعمد صحيفة "إسرائيل هيوم" أن تنشر مخططًا أطلقت عليه بالمخطط "الطموح" للسيطرة على مليون دونم فلسطيني تمتد بين محافظتي أريحا والقدس بغرض بناء منتجعات استيطانية كبرى. الهزة التي تبعت هذا الخبر الصحفي، كانت تستدعي المزيد من البحث حول أصل الخبر، ليتبين لاحقًا أن الخبر كله محض فكرة في رؤوس مستوطنين لا علاقة لهم بصناعة القرار في دولة الاحتلال.
تتالت بعد ذلك أخبار المخططات الكبرى، وتتالى بعدها تلقف الإعلام لهذا النوع من المخططات باستسلام شديد، وتتالى بالضرورة معها حالة يأس تتسلل إلى قلب أصحاب الأرض الأصليين.
لعل الحادثة التي تجيب، ولو جزئيًا على ما يحدث، حدثت حين جرت المصادقة على بناء 4600 وحدة استيطانية جديدة من قبل المجلس الأعلى للتخطيط والبناء التابع للإدارة المدنية الاحتلالية قبل شهرين من الآن، إذ جاءت عملية المصادقة بعد أن قلصت حكومة الاحتلال إجراءات الموافقة على البناء الاستيطاني من خمس خطوات إلى خطوتين، مما يؤكد ما قيل بأن دولة الاحتلال منحت وزير ماليتها ووزير أمنها صلاحيات كبيرة في مسألة الموافقات هذه. وبعيد الكثير من الإدانات الدولية للخطوة، أشار رئيس وزراء الاحتلال فيما يشبه الغمزة: صحيح أن هناك موافقة، لكن يتبقى التطبيق على الأرض. يأتي تصريح رئيس وزراء الاحتلال في محاولة منه لامتصاص الموقف الدولي، وخصوصًا الأمريكي، الذي أدان الخطوة، باعتبارها تفجر الوضع وتذهب في مسألة الاعتداء على حل الدولتين إلى مدى أبعد مما هو عليه.
وللتدليل على فحوى هذه الغمزة أن عدد الوحدات الاستيطانية التي تمت عملية دراستها ما بين إيداع ومصادقة منذ مطلع العام 2023 بلغت أكثر من 13 ألف وحدة استيطانية، لكن عند مراجعة ملفات عطاءات البناء المنشورة في المواقع الرسمية للاحتلال التي تعني بشكل فعلي شروع البناء والتوسع الاستيطاني، تبين وجود عطاءات مفتوحة لـ 1337 وحدة استيطانية فقط، أي بما يعادل 10% من مجمل المصادقات التي جرت. أحد هذه المخططات المدرج في لائحة العطاءات جرت المصادقة عليه في العام 1992 وهو مرتبط بإقامة حي جديد (مستوطنة جديدة) تتبع لمستوطنة أرئيل المقامة على أراضي محافظة سلفيت.
ثمة منهجية معروفة للمصادقة وتنفيذ خطوات التوسع الاستيطاني والسيطرة على الأرض، تقتضي هذه المنهجية المعمول بها منذ بدء الاحتلال في العام 1967، أن يتم إيداع المخططات الهيكلية في لجنة التخطيط الأعلى، ثم تقوم اللجنة بالدراسة والتعديل والتأجيل إلى أن تتم المصادقة، ثم تلي عملية المصادقة تفعيل المخطط الهيكلي، ثم تلي هذه العملية خطوة إعلان العطاء. ولعل المراقب لأمر المخططات الهيكلية يدرك أن ما بين المرحلة والمرحلة قد تستغرق سنوات طويلة في بعض أحوالها، وهذا لا ينكر سرعة إنجاز بعضها بالطبع.
لعل المراقب لأمر المخططات الهيكلية يدرك أن ما بين المرحلة والمرحلة قد تستغرق سنوات طويلة في بعض أحوالها، وهذا لا ينكر سرعة إنجاز بعضها بالطبع
بالمجمل، تحتكر المؤسسة الرسمية المتمثلة بالإدارة المدنية وتفرعاتها سلطة إقرار هذا النوع من المخططات، ويحتكر المستوى السياسي في دولة الاحتلال مسألة الإعلان عنها لأغراض سياسية مرتبطة بالشأن الدولي أو مرتبطة بالشأن الداخلي، كرسالة للمستوطنين المتطرفين بالتزام حكومتهم في مسألة التوسع الاستيطاني.
كثرة المخططات المتداولة في الإعلام الإسرائيلي في الفترة الأخيرة مثل مخططات الاستيلاء على المحميات الطبيعية الفلسطينية (مع أنها هدف أكيد بالطبع للأطماع الاستعمارية) ومخطط سموترتيش الذي لا يضيف شيئًا إلى الإجراءات على الأرض ومخطط يوسي داغان المعمول به أصلاً وتحديدًا مسألة الشوارع، كلها تريد أن توصل رسالة مفادها: سيطرة مطلقة على مقتضيات الأمور في الضفة الغربية، مع إعادة إنتاج عناوين جديدة للسلوك الاستعماري يسوق نفسه بنفسه في مجتمعات المستوطنين. لكن في حقيقة الأمر، دولة الاحتلال تنفذ مخططاتها على أكمل وجه: سيطرة على مياه الضفة الغربية وإعادة بيعها للفلسطينيين وابتزازهم بها لتحقيق البيئة الطاردة والخانقة، وبؤر استعمارية تنتشر بكثافة لإحكام الطرد وتحديدًا للتجمعات البدوية والسيطرة على المصادر الطبيعية، ومحاصرة النمو الطبيعي للفلسطينيين في المناطق المصنفة ج، وأخيرًا، تكتلات استيطانية متواصلة، عازلة وفاصلة للفلسطينيين.