"الباب" هو رمز الأمان، هو كفٌ يقول "لا" للواقف خلفه، احترامًا، وخصوصية. الباب وصلٌ وفصلٌ بين الداخل والخارج، وهو ليس مجرد قطعةٍ لإغلاق فتحةٍ في جدار. نحنُ نفتح ونُغلقُ الأبواب حسب ما تخبرنا به ثقافتنا ورؤيتنا.
كان لنابلس في أواخر القرن التاسع عشر ما يقارب ست عشرة بوابةً تُقفل في المساء، يتولى حراسة كلٍ منها رجالٌ أشداء
نابلس، إلى الشمال من الضفة الغربية، اشتُهرت ببواباتها، فقد كان للمدينة في أواخر القرن التاسع عشر ما يقارب ست عشرة بوابةً تُقفل في المساء، يتولى حراسة كلٍ منها رجالٌ أشداء، وقد وردَ في أحد المخططات الفرنسية للبلدة القديمة، عام 1926 -نشرَه الباحث الجغرافي هاني العزيزي- أسماءً لبواباتٍ عدة، منها البوابة الشرقية، والبوابة الغربية (بوابة الخضر)، وبوابة الخزندار، وبوابة النادي العربي، وبوابة الحدّادين، وبوابة إدريس. وكلُّها لم يتبقَّ منها مع مرور الزمن إلا الأثر.
أبواب المدينة، حاراتها وبيوتها، كانت كلها مصنوعة يدويًا من خشب القطران الصلب، مُنقّشةٌ ومجمّلة بيد أمهر النجارين هناك، إلا أن تعاقب الأحداث قلب موازين المعنى والهدف، فصارت "الأبواب" في عام انتفاضة الحجارة 1987 "حماية" من حديدٍ وإسمنت لقوات الاحتلال، التي أغلقت جميع مداخل البلدة القديمة لإعاقة حركة شباب الانتفاضة.
وفي الاجتياح الإسرائيلي للمدينة عام 2002، لم تُطرق الأبواب المغلقة، بل فُجّرت! الكثير من البيوت داخل البلدة القديمة، كانت آنذاك إما مهجورة غير مسكونة، أو بوائك وأماكن تاريخية مغلقة. الباب الوحيد الذي نجى، هو بابٌ خشبيٌ قديمٌ جدًا عند "حوش العطوط"، لأنه أصلًا كان مفتوحًا، وهو الوحيد الخشبي الصامد اليوم، أمام عشرات الأبواب الحديدية بين حارات البلدة.
عملية إنقاذ
بعد انسحاب جيش الاحتلال من البلدة القديمة عام 2002، وعند بدء عملية ترميم المنازل والمحلات، بدأ المهندسون –وفقًا للمهندس نصير عرفات المختص بترميم الأبنية القديمة- باستبدال الأبواب الخشبية القديمة، بأبوابٍ حديدية، وما كان يدعم هذه الخطوة شعور الناس بأن الأخيرة "هي الأكثر أمانًا"، بالإضافة إلى غياب الحرفيين الذين كانوا يصنعون مثل الأبواب القديمة الأولى، "فكان الحل الأسهل هو التخلص من الباب الخشبي القديم، واستبداله بآخر حديدي".
خلال ترميم بيوت البلدة القديمة بعد الاجتياح، كان أصحاب الأفران يحرقون الأبواب المتضررة في التنور، رغم أنها كانت من خشب القطران الذي يصعب تكسيره
يقول عرفات لـ الترا فلسطين: "أقدّر تمامًا قيمة بابٍ خشبيٍ قديمٍ مصنوع باليد، وأعرف كم كان يستغرق من الوقت والجهد حتى يتم إنجازه ليصبح على هيئة أبواب نابلس القديمة"، متسائلًا باستنكار: "لا أدري كيف فات بعض الزملاء قيمة مثل هذه الأبواب حتى يتخلصوا منها بهذه الطريقة؟".
اقرأ/ي أيضًا: "باب الساحة" شاهد على حكايات نابلس
وخلال عملية الترميم، يضيف، كان أصحاب الأفران يأخذون الأبواب المتضررة في البلدة القديمة، ويحرقونها داخل التنور، "رغم أنها جميعها كانت من خشب القطران الذي يصعب تكسيره، وهو غير متوفر الآن".
حينها اتّخذَ عرفات القرار، "كان لا بد من التعاون مع بعض المهندسين القائمين على الترميم، وأصحاب الأفران أيضًا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك الأبواب"، "لقد كنتُ أحصل على الباب من الفرّان، وأقايضه مقابل "شوال" من الحطب، أما المهندس الذي يريد الاستغناء عن بابٍ قديم، فأرسل له عتّالًا، وآخذ الباب منه بدلًا من أن يتخلص منه بالرمي" يتابع.
أحد الأبواب التي أنقذها من أيدي "الفرانين"، كانت دفةً واحدةً من باب جامع الساطون المملوكي والعثماني، الذي يتجاوز عمره 800 عام، بالإضافة إلى أبواب مصبنة كنعان والنابلسي القديمة، "وهناك أبواب متنوعة منذ فترات ما قبل عام 1900 "ما زلوا موجودين بحوزتي" يؤكد.
من ضمنها أيضًا، باب كنيسة الروم الموجودة مقابل مصبنة كنعان، وهذا له حكاية: "ففي زيارة لرئيس بلدية استافنغر النرويجية للبلدة القديمة، لفت انتباهه الأبواب القديمة، فأهديته باب الكنيسة (والحديث لعرفات) ومن المعروف أن هذه المدينة تمتاز بارتباط مواطنيها بالديانة المسيحية".
على أثر هذه الخطوة، تم إنشاء برنامج التوأمة في النرويج، وعليه، تم استضافة فنانين من نابلس لمدة أسبوعين، وإقامة مسابقةٍ للرسم على الباب بعد إرساله لجامعة النجاح الوطنية، حيث أُنتجت ثمانية أعمال فنية، اتُفِقَ على دمجها جميعها على الباب "وأُقيم للباب احتفالًا خاصًا بعد نقله للنرويج، وهو الآن موجودٌ في قاعة المدخل الرئيسي للبلدية النرويجية، كهدية من مدينة نابلس، "وقد كُتِبَت عليه قصة الباب كاملة".
بهذه الطريقة، تجمّع لدى عرفات حوالي 300 بابٍ قديم، بالإضافة إلى نوافذ وزخارف خشبية، وكلها كان يتم الاستغناء عنها من قبل أصحابها.
تجمّع لدى عرفات حوالي 300 بابٍ قديم، بالإضافة إلى نوافذ وزخارف خشبية، وكلها كان يتم الاستغناء عنها من قبل أصحابها
يحتفظ عرفات اليوم بهذه "النوادر" في مكتبه، ويحاول الاستفادة منها "قدر المستطاع" في عمليات إعادة الإعمار والترميم التي يعمل عليها.
أبوابٌ بلا مأوى
مهندس الترميمات، لم يتوقف هنا. استثمر أيضًا زيارةً لإحدى المتطوعات الأجانب، وهي رسّامة اسمُها ريبكا راب، وسؤالها عن الأبواب وماهية وجودها، فأخبرها بفكرة إعادة ترميمها، ليصلا سويًا إلى مقترح إقامة عملٍ فني لأطفال البلدة القديمة، بعنوان "أبواب بلا مأوى"، يقوم على رسم "رسائل" على هذه الأبواب التي فقدت بيوتها، من خلال التعبير عن قصصٍ مروا بها فأثرت بهم.
اقرأ/ي أيضًا: مشهد نابلس الثقافي.. تاريخ من ذهب وحاضرٌ يُرثى له
"كانت أكثر قصةٍ مؤثرة منفّذة على الورق من قبل الأطفال، يتم نقلها على الأبواب (..) كانت النتيجة مبهرة ومفاجئة في أكثر من مجال"، يتابع عرفات، مفصّلًا بالقول: "منها اكتشفنا نفسيات الأطفال وتأثرهم بوجود الاحتلال، مثلًا طفلة تأثرت باعتقال والدها، ورسمت "لا بد للقيد أن ينكسر"، وأخرى، تأثرت بمشاهدة طفلٍ في مدرستها يستشهد أمامها، رسمتهُ والدماء تسيل منه، ورسمت حقيبته وكانت تبكي، بالتالي هي عبرت عن شيء كان مكبوتًا بداخلها".
جهود ومحاولات المهندس عرفات، لجذب الاهتمام نحو أبواب البلدة الخشبية القديمة، امتدّت لتصل المدارس، حيث دعا عددًا من أساتذة الفن في عددٍ من المدارس، كي يُحضروا الأطفال للرسم على الأبواب، أو لنقل أبوابٍ يختارونها بأنفسهم للرسم عليها داخل المدرسة، والاحتفاظ بها هناك، "إلا أن أحدًا لم يستجب".
يردف عرفات: "الأبواب هنا كنزٌ محفوظ، إما لعمل فني أو لأعمال إعمار مبانٍ قديمة من خلال العمل، وقد تم استخدام 13 بابًا داخل المصبنة (مصبنة عرفات) مع بعض التعديلات".
جهدٌ وعرق
ويتحدث في السياق، النجار أبو وليد هوّاش –صاحب منجرة في البلدة القديمة- لـ الترا فلسطين، عن أخشاب الأبواب النابلسية القديمة، فيقول: "في الماضي كان يُستورد الخشب خامًا من تركيا لنابلس، وهو خشب قطران كان يصنعه النجارون، حيث يتم قصّه ثم تسويته وتجفيفه يدويًا بالكامل"، مضيفًا: "كان يمر صنع الباب بمراحل كثيرة وصعبة، ويستمر العمل فيه بحدود عشرة أيام، ومن المؤسف خسارة هذه الأبواب، سواءً على يد الاحتلال، أو بإهمال الناس وإغفالهم أهميتها".
في الماضي كان يُستورد الخشب خامًا من تركيا لنابلس، وكان يمر صنع الباب بمراحل كثيرة وصعبة، ويستمر العمل فيه بحدود عشرة أيام
النجار محمد الجوهري (75 سنة)، عاصر تلك الفترة، قال: "كنا نقوم بتجفيف الخشب تحت الشمس حتى يفتل ويعوج، ثم نصفيه، ونقوم بوضع حشوات له، منها "غراء العدس" الذي كان يُغلى على الماء، ولكن الآن لا أحد يستخدمه رغم أنه قوي جداً".
اقرأ/ي أيضًا: "متلازمة الأدراج" تُهلك آثار نابلس
يضيف: "كنتُ أصنع الأبواب يدويًا منذ 50 عامًا، وأغلب بوابات الجوامع في البلدة القديمة عملتُ بها برفقة والدي، كان الباب بسماكة الجدار، مصنوع من الخشب القاتم الصلب، وكانت استدارة أطرافه ساحرة وحميمية، فيه الرصائع المقببة ذات الاستدارة الكاملة، والتموجات الدقيقة".
ولا يسد خشب السويد أو الماغوم أو البلوط مكان خشب القطران القديم أبدًا، حسب رأي الجوهري، الذي عقّب بحسرة: "عندما رأيت منظر الأبواب بعد اجتياح عام 2002، وتفجيرها وهدمها، ثم حرقها على يد أصحاب الأفران، تألم قلبي، وتذكرت تعب وجهد الماضي، وتلك الأيادي التي صنعتها".
لا يسد خشب السويد أو الماغوم أو البلوط مكان خشب القطران القديم أبدًا، حسب رأي الجوهري
بالعودة إلى المهندس عرفات، فإن نشر الوعي بأهمية التراث، لا سيما بصناعة الأبواب القديمة، واجب، "فأي نجار يعي كم التعب والعرق الذي بُذل في بناء البيوت القديمة بمهنية عالية، أقلها أن هناك من نقش حجرًا لأيام، ثم يأتي أحدهم ببساطة ليهدمها، ويحرق أخشابها".
كانت البيوت القديمة تزيد عن 650 منزلًا في نابلس، لكن الآن تم هدم العشرات منها، "وللأسف بلدياتنا لا تستجيب رغم كثرة النداءات، أقلها على صعيد إعطاء تسهيلات لأصحاب البيوت القديمة، كي يستطيعوا ترميمها والمحافظة عليها، ولا يتم هدمها".
اقرأ/ي أيضًا:
الاستقبالات النابلسية.. رحلة في عالم النساء المنسي
مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط