لم يخطر يومًا بأذهان الفلسطينيين في مخيم اليرموك للاجئين في سورية، أن عمليات القصف للمقبرة القديمة التي يرقد فيها موتاهم، طوال أحداث سورية، كانت مقدمة لتنفيذ مخطط إسرائيلي - روسي، وبالتنسيق مع النظام السوري، سيُفضي إلى نبش القبور ونقل رفات الموتى للفحص.
إسرائيل تنبش مقبرة مخيم اليرموك بالتنسيق مع روسيا والنظام السوري بحثًا عن رفات ثلاثة جنود
المؤامرة على موتى المقبرة تكشّفت رسميًا في شهر أيار/مايو من العام الجاري، تحديدًا بعد استعادة النظام السوري سيطرته على مخيم اليرموك، عندما أعلنت إسرائيل ممثلة بمعهد الطب الشرعي في "تل أبيب" بصورة مفاجئة ومن جانب واحد، عن تسلمها رفات جندي يُدعى زخريا باومل، تم استخراجها من مقبرة المخيم.
اقرأ/ي أيضًا: لن يخرج الشهداء من مخيم اليرموك
إسرائيل في إعلانها ضللت الجميع بعدم كشفها عن الجهة التي نسقت لها لدخول المخيم والبحث عن رفات جنودها، كما أخفت تفاصيل تسلّم الرفات، فيما اقتصر الإعلان على أن العملية "تمت بالتنسيق مع طرف سوري"، ما أفضى لتبادل الاتهامات بين النظام السوري المعارضة عن الطرف الضالع في هذه العملية.
كل ما حلّ من نكباتٍ بالمقبرة فتح الطريق لما تريده إسرائيل منذ سنوات، وهو استعادة رفات ثلاثة من جنودها سقطوا قتلى في معركة "السلطان يعقوب" التي وقعت يوميّ الخميس والجمعة (10-11 تموز/يونيو 1982) بين قواتٍ من الجيش السوري والثورة الفلسطينية من جهة، وجيش الاحتلال من جهةٍ أخرى، وذلك بعد أربعة أيام من بداية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أو ما سُمّي إسرائيليًا عملية "سلامة الجليل".
في ذلك الحين، دارت معركةٌ بين الطرفين تجاوزت 8 ساعات متواصلة، انتهت بفشل قوات الاحتلال في التقدم، وتكبدها خسائر كبيرة قُدرت بـ36 دبابة، إضافة لـ30 قتيلاً وعشرات الجرحى. استطاع جيش الاحتلال تحت غطاءٍ ناريٍ كثيف سحب أغلب الآليات المعطوبة وجثث القتلى، بينما فُقِد له ثلاثة جنود هم: زخريا باومل، ويهودا كاتس، وتسفي فيلدمان، كان الثوار قد سحبوا جثثهم ونقلوها عبر الحدود إلى دمشق ثم مخيم اليرموك، حيث تمّ دفنها في مكانٍ سري داخل مقبرة الشهداء.
قبل إعلان معهد الطب الشرعي في "تل أبيب" استلام رفات باومل، كان أهالي المخيم قد اشتكوا من وجود "تحركاتٍ مشبوهة" في المقبرة، تحديدًا في شهر نيسان/إبريل من العام الجاري، وطالبوا بالسماح لهم بزيارة قبور موتاهم بعد خروج المعارضة من المخيم.
أهل مخيم اليرموك رصدوا "تحركات مشبوهة" في المقبرة في شهر نيسان الماضي، قبل إعلان استلام رفات باومل
اليوم تجّلت خيوط المؤامرة تقريبًا بشكل كامل، وهنا يكشف الترا فلسطين عن تفاصيلها واستمرارها، بعد تواصلنا مع مسؤولين وجهاتٍ رقابية.
الوليد يحيى، مسؤول ملف فلسطينيي سورية في بوابة اللاجئين، أوضح لنا أن اللعبة تم كشفها في شهر نيسان الماضي، عندما تم الإعلان إسرائيليًا عن تسلّم 27 رفاتًا واستخراج رفات الجندي زخريا باومل منها، مضيفًا، "بدأ الجميع بالاعتماد على بيّنات واستنتاجات بنوها على هذا الإعلان، لكن لاحقًا صدر بيانٌ عن الدفاع الروسي تحدث عن عملية استعادة الرفات بتنسيق إسرائيلي روسي سوري".
تابع، "قبل أسبوع خرج أحد أعضاء الجبهة الشعبية - القيادة العامة ليقول إن ما استلمته إسرائيل هو النصف العلوي للرفات وأن النصف السفلي لا يزال في سورية".
دخول بغطاء تنموي إغاثي
قبل عملية النبش، كانت المقبرة القديمة قد تعرضت لقصف عنيف واختلطت الجثث ببعضها نتيجة تحطّم القبور، وهو ما وصفه يحيى بأنه "انتهاكٌ متعمدٌ لإدخال الفرق الإسرائيلية".
وقال يحيى: "القصف قبل وبعد سيطرة النظام السوري أرِيدُ منه خلط معظم الرفات في المقبرة، وهو ما تم إنجازه، بعد ذلك وتحديدًا حينما استعاد النظام السوري سيطرته على المخيم، تم الإعلان في أيار عن مشروع تنموي إغاثي لتنظيم المقبرة وتنظيفها برعاية مؤسسات مدنية وإغاثية مثل مؤسسة جفرا، وبتمويل من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدعم فصائل فلسطينية مقتصر على توفير الأدوات للمشروع".
قبل نبش مقبرة مخيم اليرموك، تم قصفها واختلطت الجثث ببعضها، ثم استعاد النظام السوري سيطرته عليها
واستدرك، "بالمناسبة هو المشروع الوحيد الذي تم السماح له من قِبل القوات الروسية، التي لا يمكن لأحد أن يدخل أي مكان بالمخيم إلا بتصريح منها".
اقرأ/ي أيضًا: رسالة غاضبة.. من اليرموك إلى رشيد مشهراوي
وأضاف يحيى، أن المتطوعين والفرق التي دخلت المقبرة "استُخدمت كغطاءٍ لإدخال الفرق الإسرائيلية بحماية روسية، لنقل الرفات إلى إسرائيل وإجراء فحوصات عليها"، مؤكدًا أنه لا يتهم أي طرف فلسطيني بالتورط في المخطط.
تواصلنا مع السفير الفلسطيني في سورية محمود الخالدي للحصول على ردٍ بهذا الخصوص، فأجاب بأنه "لا يُصرح للإعلام". كما حاولنا التواصل مع مسؤول الدائرة السياسية في منظمة التحرير في سورية أنور عبد الهادي، لكن بعد 24 ساعة من المحاولات لم نستطع التحدث معه حتى لحظة نشر هذا التقرير.
سيطرة روسية والنبش مستمر
حاول الكثير من النشطاء والمراقبين وممثلي مؤسساتٍ إغاثيةٍ أخرى الدخول إلى المقبرة، لكن المنع الروسي سيّد الموقف إلى اليوم، ولم يتمكن أي أحد من التقاط صور لعملية النبش أو لما يجري داخل المقبرة. ورغم الحديث عن عودة لاجئين إلى المخيم بعد خروج "داعش" والمعارضة منه، إلا أنه على الواقع لم يحدث ذلك، والمخيم يخضع للسيطرة الروسية، وفق ما أكده لنا مسؤول قسم الدراسات في مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية إبراهيم العلي.
وبيّن العلي، أن العملية تجري منذ أربعة أشهر، "ووصلنا أنه تم إنشاء مختبر قرب المقبرة لإجراء تحاليل للرفات التي تم نقلها مؤخرًا، وأقصد هنا بعد تسلّم اسرائيل رفات الجندي باومل، حيث لا يزال البحث جاريًا عن رفات جنديين آخرين" كما قال.
تم إنشاء مختبر قرب مقبرة مخيم اليرموك لإجراء تحاليل للرفات، والنبش مستمر بحثًا عن رفات جنديين إسرائيليين
يأسف العلي لاستمرار عملية النبش دون أي عوائق قائلًا: "في سورية الأرض مفتوحة، والبحث يجري حاليًا عن جنود مفقودين آخرين لإسرائيل الي تعتبر الحصول على جزء من رفات جنديها انتصارًا، وهي إن عثرت على حذاء جندي آخر تعتبره انتصارًا لها".
اقرأ/ي أيضًا: لا تسامحينا يا فلسطين
ويؤكد أن انتهاك المقبرة يجري "بأريحية كاملة"، لأن روسيا التي يصفها العلي بأنها "أكثر الدول الضامنة لقيام الكيان الإسرائيلي"، هي الطرف الرئيس في العملية، نتيجة سيطرتها على كثير من المناطق السورية.
ولايزال أهل المخيم ممنوعين من زيارة المقبرة حاليًا، وقد سُمِحَ لهم يوم عيد الأضحى فقط بزيارة قبور ذويهم في المقبرة الجديدة، ثم تجدد المنع بقرار القوات الروسية، وفق ما أفادنا به العلي.
هذا الأمر "يؤكد أن المقبرتيْن القديمة والجديدة تتعرضان للنبش بحثًا عن مزيدٍ من الرفات" كما قال الوليد يحيى.
الرفات المسروقة لن تُعاد
"الأخطر في كل المخطط، أن الرفات التي تم نقلها من المقبرة إلى إسرائيل لم ولن يتم إرجاعها إلى حيث كانت ترقد" يقول يحيى باستياء.
وأضاف، "هنا نحن أمام عمل خطير لا إنساني، الرفات تم فحصها وكبّها إلى المهملات، فإسرائيل لن تعيد ما سرقته وأجرت فحوصات عليه، ولم يتم إثارة هذا الأمر تحديدًا كما يجب، ولست أدري أمام قضية كهذه لماذا لا يوجد تحرك لحماية المقبرة؛ هذا الانتهاك بحاجة إلى وقفة جادة".
يُذكر أن المقبرة القديمة التي تم نبش معظم قبورها تضم رفات كبار القادة الفلسطينيين الذين استُشهدوا خلال الثورة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأبرزهم خليل الوزير "أبو جهاد"، إضافة لرفات الشاعر عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى".
اقرأ/ي أيضًا:
يسار فلسطيني.. متآمر على الفلسطينيين