قبل ثلاثين عامًا، في عنفوان الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، في قرية اللبن الشرقية بريف نابلس الجنوبي، كانت الحاجة "أم واجد" تُحيك ألوان العلم من قطع الملابس والأقمشة المتوفّرة في بيتها، عبر ماكنة خياطة بدائية، ما زالت إلى اليوم شاهدًا على تلك المرحلة الثورية النقية.
بدأت حكاية العلم في بيت "أم واجد"، بعد أن طلب منها ابنها البكر، أن تُعدّ له ما استطاعت من أعلام لفلسطين ورايات لحركة فتح
بدأت حكاية العلم في بيت "أم واجد"، بعد أن طلب منها ابنها البكر، أن تُعدّ له ما استطاعت من أعلام لفلسطين ورايات لحركة فتح، من أجل رفعها فوق أعمدة الإنارة في القرية الصغيرة، تحديًا لقوات الاحتلال التي كانت قد هددت آنذاك بتغريم كل صاحب منزل يوجد فوق سطحه علم، إضافة لإجبارها الأهالي على إزالة الأعلام التي نصبت فوق مآذن المساجد والبيوت المهجورة والأسوار.
اقرأ/ي أيضًا: علم فلسطين.. حكايات عن الثورة والحرية
عُرفت ماكنة "أم واجد" في المنطقة المحيطة بأكملها، فهي التي كانت توزّع الأعلام على عشرات القرى المحيطة، وقرى شمال رام الله. وكانت الماكنة تعمل على دعسة الأرجل وتُدار بالزيت، وهي ما زالت إلى اليوم محفوظة لدى العائلة منذ ما يقارب الـ50 عامًا.
في أواسط الثمانينات، قبل أن تندلع الشرارة الأولى للانتفاضة، حاكت أم واجد العلم وأهدته للمطاردين ونشطاء المقاومة، الذين كانوا في كل مناسبة وطنية ينتظرون وصوله بطرقٍ مختلفة وخطيرة، حين كان يومها العلم يوازي الكلاشنكوف. وفي إحدى المرات عشيّة إقتراب ذكرى انطلاقة فتح، اعتقل الاحتلال أحد كبار كوادر الحركة، في محاولة بائسة منه للتشويش على مخططات الاستعداد للاحتفال بالانطلاقة، يومها وقع إرباك في صفوفهم وخشية من مرور الانطلاقة دون تمجيدها، عاهدت أم واجد نفسها على أن تنتصر على مخططات الاحتلال، اشترت الأقمشة المخصصة وعملت ليل نهار على حياكة الأعلام بصمت وسريّة تامة، وفي فجر الانطلاقة استيقظ الأهالي على وقع المفاجأة، أم واجد ملأت الحارات وأعمدة الإنارة ومئذنة المسجد بأعلام فلسطين.
في أوائل الثمانينات، اعتقل واجد مرتين، كونه أحد أعمدة العمل الوطني في الضفة، وتعرّض لتعذيب قاسٍ، ومع دخول الانتفاضة المجيدة عامها الثاني، تعرض للمطاردة، حيث كان من أبرز نشطاء حركة فتح في الضفة الغربية، وكان الاحتلال يحسب له ألف حساب، ويتتبعه من مكان لآخر، لكن واجد كان يفاجئه في كل مرة، ويفلت، بفضل حسّه الأمني والحماية الشعبية التي كان يوفّرها شعبنا لأبنائه المطاردين.
اقرأ/ي أيضًا: زنزانة حنا والنائمة!
في نهايات الثمانينات، تعرّضت القرية أكثر من مرة للحصار، واقتحم الجنود بيت أم واجد عشرات المرّات بحثًا عن واجد، وفي التاسع من أيار/ مايو 1989 تمكن الاحتلال من اغتياله وكان في سن الـ25، أثناء توجهه إلى مدينة سلفيت للمشاركة في تأبين الشهيد عبد المنعم الرمال (استشهد في 29 آذار/ مارس 1989)، فأصابه بسبع رصاصات، واحدة في القلب وأخرى في الرأس وتوزعت باقي الرصاصات على أنحاء جسده.
سقى دم واجد زيتونة قريبة، صارت لاحقًا باسمه، حتى أن أصحاب البيت الأقرب على مكان استشهاده، والذين خرجوا لحظة سماعهم إطلاق النار، سمّو ابنهم الوحيد على اسمه "واجد عفانة" .
وفي يوم تشييع جثمانه، لفّته أم واجد بعلم كبير، كانت قد أعدّته خصيصًا لاستشهاده دون علمه، فمنذ اللحظة الأولى لمطاردته أيقنت أن ابنها سيعود يومًا.. شهيدًا.
درس واجد الإعلام في الكلية العصرية بمدينة رام الله، وأطلقت الكلية على إحدى قاعاتها اسم: قاعة الشهيد واجد نوباني.
اقرأ/ي أيضًا:
ناصر أبو سرور.. ظريف الطول الذي نادته مزيّونة لـ26 سنة