لنجرب أن نتخيل أن منطقة تقع أقصى الجنوب الشرقي لمحافظة الخليل، لا تحمل أي تصنيف سياسي أو استعماري يجعل لغير أصحابها، سلطة للتصرف فيها. منطقة تشتهر بالثروة الحيوانية وأكبر قطعان أغنام في المحافظة موجود فيها، لا غرباء يسرقون الأراضي ويعتدون على الرعيان، ولا أوامر وقرارات عنصرية قد تدفع لاحقًا لرحيل المواطنين منها.
هذه صورة متخيلة عن مسافر يطا، وليست الواقع، وأهلها يعيشون أوضاعًا صعبة ممزوجة بأربعين عامًا من الصمود ولو بالقليل.
من اللافت أنه لم يتم بناء جدار فصل عنصري في المسافر، وربما يقع ذلك ضمن أهداف مستقبلية للاحتلال كون المنطقة تعتبر "منطقة درع النقب"
أراضي المسافر مصنفة (ج)، الخاضعة أمنيًا وإداريًا للاحتلال، ومن أجل تسهيل إجراءات الضم والإخلاء أعلن الاحتلال سنة 1980، 35 ألف دونم منها منطقة عسكرية مغلقة، وأعلن مع بداية الثمانينيات أيضًا نحو 20 ألف دونم أراضي دولة، وقام بتأجيرها للمستوطنين، ومع نهاية العقد وبداية التسعينيات ظهرت البؤر الاستيطانية لغاية اليوم، وأقيم في المنطقة 4 مستوطنات،كما تحدث نضال يونس رئيس مجلس قروي مسافر يطا.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا رأيت في مسافر يطا؟
ومن اللافت أنه لم يتم بناء جدار فصل عنصري في المسافر، وربما يقع ذلك ضمن أهداف مستقبلية للاحتلال، كما يرى نضال يونس، مع إشاراته إلى أهمية المنطقة كونها تعتبر "منطقة درع النقب"، أي يمكن الإشراف على النقب كله من منطقة المسافر.
سرقة ممنهجة للأرض ولا حدود معلومة لدولة الاحتلال، فلا حاجة للتحديد طالما الهدف باقٍ بقضم المزيد من الأراضي، والصور والأرقام التي تتحدث عن ما يجري في مناطق الضفة الغربية المصنفة (ج)، تدفع للتفكير بأن الاحتلال يهدف لترحيل الفلسطينيين من هذه المناطق حتى يسهل السيطرة عليها وضمها لحدوده المتغيرة.
المشهد من جنوب الضفة
1400 منزل وكَّل أصحابها، مؤسسة سانت ايف- المركز الكاثوليكي لحقوق الإنسان، لمتابعة إخطارات وقف العمل أو الهدم أو إزالة مباني جديدة، وصلت لهم. حيث تختص المؤسسة بموضوع هدم منازل الفلسطينيين في مناطق (ج) بجنوب الضفة بما فيها القدس.
ويمنع الاحتلال البناء في مناطق (ج) دون الحصول على ترخيص، وقد وافق ما بين 2016 و2018 على 21 طلب ترخيص بناء في (ج) من أصل 1451 طلبًا، وإلى جانب هذه المعلومة -التي ذكرها وسام مسلماني، مسؤول وحدة المناصرة والعمل الميداني في المؤسسة- أوضح أن ما يسري في (ج)، القانون الأردني لعام 1966 وقوانين من فترة الحكم العثماني، ووفق مخطط هيكلي من عهد الانتداب البريطاني.
المحكمة المركزية تنظر للقضية وفق مطابقتها للقوانين الإسرائيلية دون الاهتمام بالجانبي الدولي والإنساني، بعكس المحكمة العليا، التي قد يكون محرجا لها قليلاً هدم منزل مسكون
تفاصيل وإجراءات عديدة ذكرها وسام مسلماني ضمن عمله في المؤسسة، مثل نقل صلاحيات من المحكمة العليا إلى المركزية، من بينها موضوع هدم المنازل، وذلك للتسريع في الإجراءات. يقول إن المحكمة المركزية تنظر للقضية وفق مطابقتها للقوانين الإسرائيلية دون الاهتمام بالجانبي الدولي والإنساني، بعكس المحكمة العليا، التي قد يكون محرجا لها قليلاً هدم منزل مسكون، وذلك إلى جانب الأمر العسكري المتعلق بإزالة مباني جديدة بـــ(ج)، "وسيستخدم في مناطق حساسة فقط، وهي مناطق عسكرية مغلقة، أو المناطق القريبة من المستوطنات، أو القريبة من شارع التفافي، أو أراضي دولة، أو قريبة من معسكرات، أو محمية طبيعية، أو منطقة آثار أو مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية الفلسطينية".
اقرأ/ي أيضًا: "الطابو" الفلسطيني بمناطق (ج).. فيتو إسرائيلي
الاستيطان.. الحرمان من "الحياة المدنية البسيطة"
تضييق مستمر لسلب الأرض، ربما هذا ما دفع نضال يونس ليقول إن "أي شيء يتعلق بالحياة المدنية البسيطة محرومين"، يتكلم عن هذا الأمر وهو ينقل صورة الوضع بمسافر يطا، وعن المشاكل المتعلقة بالحياة اليومية، المدارس والمياه والصحة والطرق، والحلول لها. قال إن الطالب بالمرحلة الابتدائية كان يضطر للذهاب لمدينة يطا بعيدًا عن أمه لكي يتعلم، فالبناء ممنوع والطرق صعبة.
لاحقًا، أقيمت خمس مدارس، كما تم عمل شبكة مياه توفر أكثر من 70% من احتياجات المواطنين من ناحية الكمية والجودة، وتم إقامة 6 مراكز لتقديم خدمات صحية، وحاول المواطنون تهذيب بعض طرق المنطقة، حتى تسير عليها بعض المركبات البسيطة، والمساعدة بتأهيل ما يتعلق بالثروة الحيوانية أو الزراعة النباتية. مقومات بسيطة للاستقرار تحدث عنها نضال يونس، لتعزيز صمود من تبقى بالمسافر الذين يصل عددهم اليوم إلى 2000 نسمة، علمًا أن الذين أصولهم من مسافر يطا أكثر من 30 ألف شخص.
في الشمال.. ربط المستوطنات وتمزق القرى الفلسطينية
في قريتي حارس وكفل حارس بسلفيت، الأمر لا يتعلق بذكر رقم عن عدد المستوطنات أو مرات الهدم والإخطارات، بل يذهب عقلك إلى محاكاة عيش المواطنين هناك، حيث أن اعتداءات المستوطنين تصل حد الاعتياد عليها، كما قال عصام أبو يعقوب رئيس بلدية كفل حارس. والمستوطنات الخمسة المحيطة بـــ"حارس" والشوارع الالتفافية أثرت على حياة المواطنين وحاجتهم للتمدد في القرية، ما دفع بعضهم إلى شراء أراضي مصنفة (ب) و(ج) في "كفل حارس" و"ديراستيا" المجاورتين، للبناء، كما اضطر من لا يملك أرضًا في "حارس" إلا خارج الشوارع الالتفافية، إلى شراء بيت داخل المخططات الهيكلية للقرى المجاورة وكذلك في مدينتي نابلس وسلفيت، كما تحدث رئيس المجلس القروي عمر سمارة.
المستوطنات الخمسة المحيطة بـقرية حارس والشوارع الالتفافية أثرت على حياة المواطنين وحاجتهم للتمدد في القرية، ما دفع بعضهم إلى شراء أراضي مصنفة (ب)، (ج) للبناء
وفي نابلس المجاورة لسلفيت، كانت الإخطارات المتعلقة بقرار وقف عمل أو هدم، هي الأعلى، وفق مراقبة مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، حيت توكل المركز منذ يناير الماضي ولغاية 24 أغسطس الفائت، بمتابعة 142 ملفًا في قبلان، ويتما، ومجدل بني فاضل، ودوما، وروجيب وفي حي التعاون بنابلس الجديدة، حيث وزع في المنطقة الأخيرة نحو 20 إخطاًر، وهذا أمر لافت كما يرى وائل القط، المحامي في المركز.
اقرأ/ي أيضًا: الاحتلال يمنع البناء الفلسطيني في الولجة.. مقابل تعزيز الاستيطان
وقال وائل، إن الإخطارات في نابلس كانت معظمها في الجنوب، "قبلان، ويتما، ومجدل بني فاضل، ودوما، وروجيب، وقصرة وجبل صبيح"، أي منطقة حاجز زعترة وللشرق باتجاه الغور، ويعتقد أن الاحتلال ربما لديه نية بعمل ذراع يربط مستوطنات الغور مع مستوطنة "أريئيل" مرورًا بحاجز زعترة، دون أن يفصل وائل ما يجري عن مشروع الضم، مع أنه تم الحديث عن وقفه.
وبالرغم من الحديث عن موضوع نابلس وملاحظة زيادة الإخطارات فيها، توكل المركز في ذات المدة الزمنية أيضًا، بمتابعة 122 إخطارًا برام الله والقدس، و24 في سلفيت، و38 في قلقيلية، واثنين في طوباس، وواحد في طولكرم و7 إخطارات في جنين.
وقد تعامل المركز أيضًا مع عشرة ملفات متعلقة بالأمر العسكري بإزالة المباني الجديدة خلال العام الجاري. يُقارن وائل القط هذا الرقم مع عدد إخطارات وقف العمل أو الهدم، والتي معظمها متعلق بالمباني القديمة، ما يدلل من جهة نظره على خوف الفلسطينيين من البناء في مناطق (ج) وأن المواطن قد يلجأ لشراء أرض في (أ) أو (ب) أو يهاجر للمدينة ويسكن فيها.
وأوضح وائل القط، الأمر العسكري بإزالة المباني الجديدة، حيث يعطي مهلة 96 ساعةً لإظهار رخصة بناء من أجل إلغاء قرار الهدم، والحالات التي ينطبق عليها شروط الهدم، إذا كان المبنى قيد الإنشاء، أو إذا اكتمل قبل 6 شهور ولم يسكن (حيث هناك خطر بجزئية عدم السكن في البيت)، ولا ينطبق الأمر على من بنى منزلًا قبل 6 شهور وسكن فيه خلال شهر من بنائه.
527 مستوطنة.. مساحتنا تتقلص
في التقرير السنوي لمركز أبحاث الأراضي لعام 2020، ذكر وجود 527 مستوطنةً في الضفة الغربية، منها 304 بؤر استيطانية، بزيادة قدرها 17 بؤرة عن العام 2019، كما تم شق 34 طريقًا استيطانيًا بأطوال 38 كيلومترًا بين المستعمرات والبؤر، وجرى أيضًا بناء 592 وحدة استعمارية و38 منشأةً مختلفةً في 53 مستوطنة وبؤرة.
قال مدير مكتب مركز أبحاث الأراضي في نابلس محمود الصيفي، إن في السنة الماضية هدم الاحتلال 883 مسكنًا ومنشأة، منها 94 مسكنًا تم هدمها من قبل أصحابها، وقد أدى التدمير إلى تهجير 1600 مواطن.
وفيما يخص مصادرة الأراضي أو ما تم الإعلان عن مصادرتها، وثق المركز، نحو 34 ألفًا و390 دونمًا، جرف ودمر منها 3830 دونمًا من الأراضي الزراعية والرعوية، وفق محمود الصيفي.
بعد هذه الأرقام لا يعود في ذهني سوى حديثي مع مجلسي حارس وكفل حارس، المواطنون يحتاجون للبناء، والمستوطنون هدفهم التمدد وإخفاء وجودنا. ولكن الأمر يحتاج إلى الشعور بالأمل بأن يسلم بناء ما في مناطق (ج) من الهدم، والمحافظة على الأرض والبنيان عليها.
أهالي الأغوار في كنتونات مغلقة
الغاية إعطاء صورة عن الواقع في فلسطين، عن عدد المستوطنات والإخطارات، عن مدى السيطرة الإسرائيلية على مناطق (ج)، عن طريقة عيش الفلسطينيين في تجمعات منفصلة.
في الأغوار، 36 مستوطنة وبؤرة استيطانية أقيمت منذ 1967 وحتى الآن، إلى جانب حوالي 22 معسكرًا لتدريب جيش الاحتلال
الناشط الحقوقي عارف دراغمة نقل لنا مشهدًا مؤلما عن الأغوار، بوجود 36 مستوطنة وبؤرة استيطانية أقيمت منذ 1967 وحتى الآن، إلى جانب حوالي 22 معسكرًا لتدريب جيش الاحتلال، ومصادرة آلاف الدونمات بحجة أنها محميات طبيعية أو تحت مسميات أخرى.
ولك أن تتخيل وجود تدريبات عسكرية بين المواطنين. فقد قال عارف إن إجراء التدريبات بين خيم السكان ومضاربهم تهدف للتهجير القسري، حيث هجرت عشرات العائلات من أماكنها سواء داخل الأغوار أو خارجها.
وقال، إن مساحة الأغوار بما فيها شرق البحر الميت نحو مليون و100 ألف دونم، ويعيش فيها ما يقارب 60 ألف فلسطيني في كنتونات مغلقة بسبب المستوطنات والمعسكرات، ويسيطر الاحتلال على أكثر من 82% من مساحتها والفلسطيني لا يسيطر سوى على نحو 18%.
ويركز الاحتلال على الأغوار الشمالية، كما يرى عارف دراغمة، حيث يوجد فيها أكثر من نصف عدد المستوطنات المقامة في مناطق الأغوار المختلفة، وللاحتلال السيطرة على المياه والأرض والحدود، فالأغوار الشمالية هي مثلث مهم بالنسبة للفلسطينيين مع أراضي الداخل المحتل والأراضي الأردنية، لذا يحاول الاحتلال السيطرة عليها بالكامل، من خلال ضم المستوطنات في مدينة استيطانية تغلق الأغوار الشمالية ككل، ما يقطع آمال الفلسطينيين بالتمدد أو التواجد.
جدوى البقاء
في مقالته عن "التطهير المكاني والبيوسياسة.. المشروع الاستعماري الإسرائيلي من عام 1947 إلى زمن بناء "الجدار".."، يقول ساري حنفي إن النكبة، هي نكبة أرض، ويرجع للاحتلال تحديد ما هو للظهور وما هو للعتمة، والمشاهد التي حصلنا عليها والأرقام تحوي باستمرارية نكبة الأرض والسيطرة عليها لطمس الوجود الفلسطيني ودفعه للرحيل بسبب إجراءات الاحتلال وطرقه في التضييق، وهذا ما لامسناه سواءً في "مسافر يطا" أو "حارس"، ولكن بالرغم من ذلك فإن جدوى البقاء مستمرة لطرد الغرباء والإبقاء على الوجود الفلسطيني وتمدده.
اقرأ/ي ايضًا: