ذات مرّة تابعت شهادة لأحد الكُتّاب أثناء اعتقاله في واحد من السجون العربية، سرد قصّة مريعة عن أم كانت داخل المعتقل، وأنجبت ابنها هناك. كبُر الولد دون أن يرى العالم الخارجي, وفي ذات يوم ملأ صراخه أرجاء المعتقل، فطلب السجانون من صديقنا هذا أن يجلس مع الطفل ويحاول أن يحكي له قصة أو يشغله بشيء ما، بصفته كاتبًا، وربما نجح في وقف صرخات الصغير.
لم أتفاجأ حينما قالت لي صديقتي إنّ ابنها الذي كبر إدراكه وتعرّف على ما حوله من مفردات خلال الحرب، لم يعرف الدجاجة
دخل على الطفل، وبدأ يداعبه، ويحكي له: "كان في مرّة عصفور واقف على شجرة". باغته الصغير بسؤال: "شو يعني عصفور؟! شو يعني شجرة؟".
هُنا وقف صاحبنا مذهولًا؛ الطفل كبر دون أن يرى، أو يتعرف على تفاصيل العالم المحيط به، لم ير خلال السنوات الأولى شيئًا مما يجب أن يراه الأطفال في عمره! خرج صاحبنا من زنزانة السجين الصغير، حائرًا، ولم يُعلّق. لا كلمات لديه يلقيها على مسامع الباكي، حتى يهدأ ، لأن لا لغة في عقل الصغير ولا كلمات.
وفي غزة، لم أتفاجأ حينما قالت لي صديقتي إنّ ابنها الذي كبر إدراكه وتعرّف على ما حوله من مفردات خلال الحرب، لم يعرف الدجاجة حينما شاهدها بعد مجاعة طويلة ضربت غزة، وحرمت أهلها من معظم السلع الأساسية، بل خاف منها!
حصل ذلك حينما حرمت العائلة من الدجاج بسبب حصار التجويع الذي يرتكبه الاحتلال ضد قطاع غزة، وحينما دخل الدجاج وبعض الخضراوات إلى مدينة غزة والشمال، استطاعت العائلة أن تحصل على واحدة، ففوجئت صديقتي بابنها لا يعرف الدجاجة، ويسأل: "شو يعني دجاجة؟!".
هذا الطفل أصبح عمره أكثر من عامين، يتكلّم بطلاقة، ويعرف كل ما حوله، كل ذلك حدث خلال سنة وأكثر من الحرب والمجاعة، ما جعله يخاف هذا الكائن الغريب المحّمر الذي تمدد على طاولة الطعام أمامه!
قد لا يعبأ أحد في العالم، بطفل لا يعرف الدجاجة، أو يتفاجأ بأن هناك كائنات أصلًا يمكنه أكلها. هو لم يشاهد السمك مثلًا، وربما لن يشاهده قريبًا، فالبوارج تنتظر على شاطئ غزة لتقتل الصيادين، ولا أدري كيف تكون ردّة فعله لو رأى وجبة سمك أمامه.
سيقول من يجهل واقع غزة، ألم يشاهد دجاجة أو سمكة على يوتيوب، أو التلفزيون؟ لا يا أخي، أطفال العالم يعرفون كل شيء من اليوتيوب، لكن غزة بدون انترنت ولا كهرباء، ولك أن تفهم.
هناك صديقة أخرى، اعتقد ابنها (ثلاثة أعوام) بأنّ حبّة الكوسا، هي خيارة، لأنه لم ير في حياته الإدراكية التي بدأت بعد إكماله عامين، أي حبة كوسا، بل إنه حدق في حبّة البندورة، معتقدًا أنها لعبة، ولم يرض أن يتذوّقها ظنًا منه أنها شيء لا يؤكل، وقد رأى الدجاجة وتعرف عليها ليوم واحد، ثم انقطع الدجاج لستة أشهر وما يزال الدجاج مقطوع عن غزة والشمال، في تجويع ممنهج هو الأصعب منذ بداية هذه الإبادة.
لحظات الإدراك الأولى في عمر الطفل، هي أهمُّ لحظات يمكن أن يبنى فيها وعيه بشكل كامل، وتوسّع مداركه، وبناء ثقافته، بل آراءه ومواقفه فيما بعد، وذلك أمر خطير ربما يكون له أبعاده النفسية، فهل يعتقد العالم إذا قدّم قطعة لحم لصغير، أو دجاجة، أن يسأله الطفل هكذا سؤال؟! لكنّه في الحقيقة سؤال طبيعي ومتوقّع في غزة.
لا أدري كيف يمكن أن يتأثر تحصيل وحصيلة طفل في أوّل عامين من عمره في ظل هذا القحط من الكلمات المحيطة به، لا يوجد في المدينة المنكوبة سوى أكوام من الرماد، وأصوات الصواريخ، لا حضانة، لا حقيبة، لا ملابس، لا سوق، لا متنزه، لا بيت جدة أو جد، لا أصدقاء، لا سوبر ماركت، لا مكتبة، لا عيد ولا مناسبة اجتماعية، لا أفراح، لا أعياد ميلاد، لا مواقف هنا أو هناك لينمّي الطفل حصيلته اللغوية.
لكن الطفل ابن الأعوام الثلاثة يعرف الآن الفرق بين صواريخ المقاومة وصواريخ الاحتلال، حتى أن أطفالي في بداية إدراكهم للحروب كانوا يسألون دومًا حينما يسمعون الصوت، هل هذا منّا أم علينا؟!
وكنت أنا أيضًا لا أفرّق، لكننا الآن بعد خوض خمس حروب، والكثير من التصعيدات بين حرب وأخرى، نستطيع أن نفرّق جيّدًا في الأصوات، الأمر الذي علّمنا معرفة أنواع الصواريخ التي يضربها الاحتلال علينا.. ابن ثلاثة أعوام، يعرف طائرات F16- F35، ويعرف كذلك البوارج، والكواد كابتر، والاستطلاع، يعرف نتنياهو، يعرف معنى مجازر، يعرف إبادة، وتجويع، وخيام، ونزوح، وحطب، نار، ونكبة، ويعرف أيضًا معنى الفقد، والظلم، والقهر، والبكاء، والدموع، وشهيد. وأعتقد أن هذا كافٍ لطفل من غزة، كي يعرف طريقه، حتى لو لم يكن يعرف تحديدًا "شو يعني دجاجة؟!".