14-نوفمبر-2024
ترند اسمه غزة

علينا أن نحافظ على ديمومة "الترند" قبل أن ينجحوا في حربهم ضدّه

شعرت بوجوب أن أكتب شيئًا بعد قراءتي لجزء كبير من رواية "الرعب: حكاية الحرب في غزة" للكاتب أيمن العتوم، التي يجذبك عنوانها، ويبدو كأنه دراسة وافية تجيب على كل الأسئلة التي تدور في ذهن أي شخص يعيش خارج الحكاية.

اكتشفنا العالم! شيء مضحك، لقد سمعوا بأمرنا أخيرًا، بحثوا عنا، عرفوا الحقيقة. لم تعد "إسرائيل" تستطيع إخفاء شيء

لم تكن الرواية موجهة لنا نحن الفلسطينيين، وخاصة الغزيين؛ لذا لا أنصح بقراءتها. هناك روح منتزعة في هذا الورق، وهي روح الغزي الذي يفهم المعنى ولا يستطيع التعبير عنه. تفاصيل التفاصيل التي لها علاقة بألم متجذر لا يمكن أن يعرف الآخرون سره بسهولة إلا إذا عايشوه. لذلك، من أهم شروط الرواية الناجحة أن يذهب الكاتب للإقامة في مكان الحدث حتى يفهم كيف يصف الصورة بصدق.

كنت أتوقع أن أقرأ تغريبة فلسطينية كتلك التي كتبها وليد سيف، والتي تشبهنا إلى حدّ التطابق. ولكن لا مجال هنا للمقارنة؛ فوليد سيف ابن التجربة، ولعل هذا يعطي أي كاتب إشارة تحذير من الكتابة في قضايا غيره من المجتمعات. أتذكر هنا نصيحة من أحد الكتاب: "ليس مطلوبًا منك أن تكتب عن بلاد غير بلادك، اكتب عن بلادك وكفى". إلّا إذا كان الكاتب يملك الحاسة التي تحوّله إلى غزي قبل أن يكتب، لذلك أعتقد أن الكتابة عن الإبادة لن تكون صعبة أبدًا لو كان الكاتب من غزة.

لهذا وجب علينا أن يخرج من بيننا كاتب يعيد سرد الحكاية بموضوعية وبصيرة أكبر. لا أريد أن أقلل مما كتبه أيمن العتوم؛ المحاولة تكفي ويمكن أن نقول له: شكرًا.

علينا أن نحافظ على ديمومة "الترند" قبل أن ينجحوا في حربهم ضدّه ويعود الجميع إلى منعه مرة أخرى 

لكن غزة أصبحت "ترند". في الأدب، تجذبني العناوين الغامضة قليلًا والتي لا يظهر فيها المعنى على الغلاف. ولكن، أصبحت غزة اسمًا جذابًا يبحث عنه الكثيرون حول العالم. من المفترض أن يضعه الكاتب على الغلاف كوسيلة جذب. لا أدري كيف استطاع أيمن العتوم سرد حكاية كاملة بينما لازالت حبكة النهاية لم تكتب ولا يستطيع توقعها أحد!

هذا هو "الترند" كما يقولون عنه. لا أريد الخوض في نوايا الرجل، لأنني أيضًا مع ركوب "الترند"؛ لأنه ربما يكون لفترة قصيرة ثم يحارب، وهذه فرصتنا لاستغلاله.

قبل الحرب، أرسلت إلى دور نشر لتتبنى نشر روايتي التي تحكي بالتأكيد عن غزة. ولكن بعد مدح وتقدير، قالت لي معظم دور النشر: "الرواية لا تتطابق مع سياسة النشر". ثم جاءت الحرب، وحصدت روايتي التي لم تُطبع المركز الأول في مسابقة دولية! لا أريد أن أقلل من أهميتها، لكن "الترند" كان له حصة لا بأس بها من أسباب النجاح. الرواية في طريقها للخروج إلى النور أخيرًا.

منذ خرجت من غزة قبل ستة أشهر، كتبت في شهر واحد مجموعة قصصية كاملة، أو لنقل، كتبت المجموعة نفسها من نفسها. الأحداث المتخيّلة التي من المفترض أن تكون شرطًا لكتابة قصة قصيرة كانت واقعية على أي حال. رأيت نفسي مضطرة؛ لأن أحلف يمينًا عظيمًا في مقدمة المجموعة بأن هذه القصص حدثت.

ولكن الغريب أنني حينما عرضتها على دار نشر عربية، فضّل الناشر تغيير العنوان الذي يحمل غموضًا بعض الشيء إلى عنوان يحتوي على اسم غزة بوضوح وصراحة. لقد أصبح الاسم جذابًا، وقد يكون هو أول أسباب النجاح والانتشار.

شعرت عشرات المرات بالخيانة وأنا أبحث عن دار نشر أضيف من خلالها نجاحًا جديدًا يتسابق مع قنبلة الموسم في النشر "غزة". بدأت الكتابة كعلاج نفسي ثم بدأت أشعر أنني أريد أن أسابق الزمن في وضع بصمة في فضح ما يفعله الاحتلال، خاصة حينما وجدت الجهل العربي الفظيع في قضية عمرها أكثر من سبعين عامًا.

حينما تذكر له أن غزة مدينة صغيرة فيتعجب "أصغر من مصر يعني؟" وكأنه لم ير خارطة العالم يومًا ويتفاجأ بأن المدينة التي فجرت كل هذا القلق لا تتجاوز مساحة مدينة صغيرة

كان يسألني أحد المارة "أين تقع غزة؟" أو حينما تذكر له أن غزة مدينة صغيرة فيتعجب "أصغر من مصر يعني؟"، وكأنه لم ير خارطة العالم يومًا ويتفاجأ بأن المدينة التي فجرت كل هذا القلق لا تتجاوز مساحة مدينة صغيرة في مصر أو السعودية!

حجم الجهل العربي في أبعاد القضية الفلسطينية وجذورها دفعني لأن أكتب، وأركب "الترند" قبل أن يصبح ذكر اسم غزة ممنوعًا من النشر كما كان قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

دور النشر العربية التي أرسلت لها قصصي ورواياتي كانت تصدّني باحترام مبالغ فيه، حتى فرض الاسم نفسه بشكل لا يمكن تجاوزه من قبل الجميع. وجدنا فجأة اهتمامًا فظيعًا باسم غزة وكتابها وشعرائها وكل ما خرج منها.

تصدّرت رواية "الشوك والقرنفل" صفحات التسويق في كل دور النشر بدون استثناء، مع أن الرواية ملقاة على رابط في أحد صفحات الكتب الإلكترونية منذ سنوات! اكتشفنا العالم! شيء مضحك، لقد سمعوا بأمرنا أخيرًا، بحثوا عنا، عرفوا الحقيقة. لم تعد إسرائيل تستطيع إخفاء شيء ولا الترويج لفكرة معاداة السامية فقد أصبحت فكرة مضحكة.

أنا والله لا أنتقد أحدًا، أنا سعيدة وكفى بمحاولات وإن كانت تجارية لإظهار الحقائق.

أسير في شوارع القاهرة وأضحك فرحًا بكنزة مرسوم عليها خريطة فلسطين، أو خاتم مطبوع عليه اسم غزة، أو حقيبة مطرزة بصورة الملثم. وجدت إقبالًا في معارض تباع بأسعار سياحية ويقبل عليها كثيرون حول العالم!

أتذكر كيف كانت محاولاتنا تلك لا تجد أي أذن لتسمع، حتى أن أحد الكتاب الفلسطينيين، قال في مقابلة له: "يجب أن نتحايل على الكتابة وعلى دور النشر، نكتب برمزية حتى تنشر كتاباتنا". هذا يعني أن اسم غزة على غلاف بالبنط العريض كان حلمًا وأصبح حقيقة، بل مطلوب بشدة.

أصبحت غزة أمرًا واقعًا، وتصدرت المشهد وانتهى الأمر. علينا أن نحافظ الآن على صدارتها بكل الطرق.

اركب "الترند" يا سيدي الكاتب، يا سيدي التاجر، يا بلوجر، يا رحالة على اليوتيوب، يا صاحب مشروع، انطلق، ولا يحق لنا أن نقول إنك متكسب أو مرتزق على حساب الاسم اللامع. تكسّب يا أخي، جميعنا نريد أن نتكسّب. ولكن، اكشف الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. ما دام كشفها متاحًا الآن، ولو مؤقتًا، علينا أن نحافظ على ديمومة "الترند" قبل أن ينجحوا في حربهم ضدّه ويعود الجميع إلى منعه مرة أخرى.