على جدار زنزانة الانتظار في سجن "هشارون"، بينما كنا ننتظر نقلنا إلى البوسطة المتجهة شمالاً إلى سجن الدامون، كانت سامية تكتب على الحائط بطرف "سحّاب" مصحف الجيب خاصتها: "سامية مشاهرة زوجة الأسير البطل فهمي مشاهرة 20 مؤبد مدى الحياة"، لتبقى هذه العبارة شاهدًا على رحلة سامية إلى محاكم القدس في حرِّ تموز.
كان فهمي، زوج سامية، ملتصقًا بنافذة البوسطة يراقب تفاصيل ساحة السجن في انتظار أن تطل سامية، فتكتحل عيناه برؤيتها، لمحها من قيده في قيدها فصرخ ملء الفضاء سندًا ودفءًا
في اليوم السابق لهذا الموقف، أُخْرِجنا قرابة الثانية فجرًا إلى البوسطة المتوجهة من سجن "هشارون" إلى سجن الرملة الذي كان محطةً لتبديل الأسرى وتوزيعهم حسب المحاكم التي تعقد فيها جلساتهم. هدير محرك البوسطة يمزق هدوء ليل البلاد المسروقة، جلسنا متراصات، أنا وسامية وسناء ومنار، مقيدات الأيدي والأرجل، حتى إذا حل موعد صلاة الفجر، أقامت سامية الصلاة وأمَّت بنا، نصلي بالإيماءات لا أكثر فإمالة الرأس بشكل بسيط للأمام تعني ارتطامه بالباب الحديدي للكبينة التي كانت بالكاد تتسع لنا جالسات.
وصلنا الرملة، نقلت سامية إلى بوسطةٍ متوجهةٍ إلى القدس، وإذ تسير سامية بين البوسطات، ينادي عليها صوتٌ قوي يتعالى على القيد: "سامية، يا أم عبيدة، الله معك، الله يقويك" والحكاية كلها في صاحب الصوت وصاحبة القيد. كان فهمي، زوج سامية، ملتصقًا بنافذة البوسطة يراقب تفاصيل ساحة السجن في انتظار أن تطل سامية، فتكتحل عيناه برؤيتها، لمحها من قيده في قيدها فصرخ ملء الفضاء سندًا ودفءًا.
الثالث عشر من تموز/يوليو 2016 كان موعد المحكمة، فجر ذلك اليوم رأى فهمي، سامية التي نقلها أفراد "النحشون" إلى ذات البوسطة التي كان فهمي فيها، ولخمس دقائق وضعت سامية في "كبينة" مجاورة لِـ "كبينة" فهمي، ورغم هدير محرك البوسطة استطاعا اختطاف حديث سريع رغم صفيحة الحديد الفاصلة بينهما.
قال فهمي إنه غير قادر على تصديق أنه سيرى القدس بعد كل سنوات الغياب التي تجاوزت عشر سنوات منذ إصدار حكمه. نُقلت سامية لبوسطة ثانية، بينما عاد فهمي يراقبها من نافذة البوسطة وينادي بأعلى صوته عليها محاولاً أن يسمعها صوته طوال الوقت، في مشهدٍ يتقاسم فيه الحبيبان، الألم والمؤازرة.
ذهبت سامية في رحلتها للقاء القدس وفهمي بلا فواصل بينهما، أما أنا فقد نسيت قيدي وعناء الرحلة إلى محكمة "عوفر" لأن ذهني انشغل بانتظار اللقاء مجددًا بسامية آخر النهار لأسمع منها عن جلال الحب رغم القيد.
في المحكمة الشرعية في القدس، سامية وفهمي يجلسان يفصل بينهما جندي في وحدة "النحشون" المخصصة لنقل الأسرى، يخاطب فهمي القاضي طالبًا منه أن يحصل على ربع ساعة يناقش فيها هو وسامية القضية التي جاءا إلى المحكمة لأجلها، لكن الحقيقة أنه أراد أن يسلم عليها كما يحب، لكن القاضي أحال الأمر لجندي "النحشون" الجالس بينهما، وهذا بدوره سمح لهما بالمصافحة فقط. رفض فهمي ذلك، بينما اغرورقت عينا سامية دمعًا من قهر.
رفض جندي النحشون أن يتحدث الأسير فهمي مشاهرة مع زوجته الأسيرة سامية ربع ساعة في قاعة المحكمة
تسألها المحامية :"لماذ تبكين؟"، تجيب سامية ساخرةً: "في ريحة بصل في الجو!" ورُفعت الجلسة بلقاء مبتور.
كنت في لهفةٍ لوصول سجن الرملة من محكمة "عوفر" لألقى سامية فتحدثني.
اقرأ/ي أيضًا: رومانسية أسرى وزوجاتهم على عينك يا سجان
كان فهمي قد أودع لسامية في سجن الرملة هدية العيد، وأخبرها أنها هدية لها ولرفيقاتها في السجن، فلما طلبت أن تأخذ الوديعة رفض "النحشون" ذلك، وعدنا لسجن "هشارون" دون هدية العيد ودون مصافحة بين فهمي وسامية. لكن سامية كانت تُحلّق كأنما حيزت لها الدنيا، فقد انتزعت من بين مخالب القهر ساعةَ قرب تعينها على مشقة ما تبقى من مدة حكمها.
سُمح لسامية مراتٌ محدودةٌ بتلقي رسائل مكتوبة وبطاقات معايدة من فهمي، وكان وصول تلك الرسائل لها أمرًا يستدعي أن نهنئها به، إنه تعالٍ فريدٌ على كل أدوات القهر والطغيان.
فهمي، الفنان البارع في الرسم، كان يستفيد من بقايا الكلور في السجن، فيستعمله للرسم على قمصان سوداء اللون، ثم يخرجها مع أهله في زيارتهم له، ويأخذها أولاده لأمهم في سجنها حين يزورونها، فلما تجدها سامية بين ما أُدخل لها من ملابس تبتهج أيما بهجة.
تعد كثيرًا من الهدايا في سجنها لفهمي، على أمل أن توصلها له حين يلتئم شملهما في الحرية.
كانت سامية قد اعتقلت نهايات عام 2015، أثناء زيارتها لزوجها فهمي في سجنه، وحكمت بالسجن الفعلي لأحد عشر شهرًا، تاركةً وراءها أبناءها زينة وعبيدة اللذان كانا طفلين حين اعتقل والدهما، وعزيزة التي كانت أول طفلة من القدس تولد بالنطف المهربة عام 2013. أما فهمي فقد اعتقل خلال انتفاضة الأقصى وحكم عليه بالسجن المؤبد عشرين مرة، فحملت سامية على كاهلها عبء البيت والأبناء وغياب الزوج.
عقب اعتقال سامية، حاولت هي وفهمي التقدم بطلب لزيارة يلتقيان فيها بحسب ما تنص عليه لوائح إدارة سجون الاحتلال التي تسمح بالزيارات للأسرى الأقارب من الدرجة الأولى، لكن سلطات الاحتلال رفضت دائمًا طلباتهما، ما دفع فهمي إلى استثمار معطيات حياته مع سامية لابتكار حيلة ذكية. تحمل سامية هوية الضفة الغربية أما فهمي فهويته "قدس"، وعادة ما تواجه الأُسر التي لا تتطابق نوعية هويات الأم والأب فيها مشاكل في الإقامة.
ادعى فهمي أن خلافًا بينه وبين زوجته قد نشأ حول حضانة عزيزة الصغيرة، وأنه يريد عرض القضية على المحكمة الشرعية في القدس، ويتطلب انعقاد الجلسة أن يحضر هو وسامية للمحكمة على اعتبار أنهما طرفا المشكلة.
ادعى فهمي أن خلافًا بينه وبين زوجته قد نشأ حول حضانة عزيزة الصغيرة، وأنه يريد عرض القضية على المحكمة الشرعية في القدس ليلتقي مع زوجته
أرسل فهمي من سجنه إلى سامية في سجنها أنه بانتظار تحديد جلسة محاكمة لهذا السبب، ففهمت سامية بما بين القلبين من أُلفة أنها حيلة، وأعدت نفسها لليوم الذي كنا جميعًا نترقبه معها ونشاركها صناعة التفاصيل لملاقاته.
تحررت سامية في أيلول/سبتمبر 2016، وقبل عام رزقت بابنها عيد الذي ولد بنطفة مهربة، وظفر بلقاء أبيه وهو ابن أشهرٍ سبعة حين أحضر فهمي من سجنه لفحص الحمض النووي لإثبات أبوته لعيد وعزيزة فتمكنا من لقاء والدهما، وكان هذا اللقاء الأول الذي يجمع بين سامية وفهمي بعد لقاء المحكمة في القدس، فكان عيدًا للأسرة.
السيدة الهادئة، مفتاح الخير مغلاق الشر كما كانت صاحباتها في السجن يذكرنها، تجابه الحياة كل يوم لتحفظ أبناءها وتؤمن لهم عيشًا مستقرًا، وتنتظر عودة زوجها الذي قالت عنه حينما التقينا بعد لقائهما: "يا الله شو كبران، شيبته السجون، 15 سنة هذول والله ما هن قلال".
اقرأ/ي أيضًا:
أسيرة جديدة في السجن: هكذا تستقبلها الأسيرات