تشق حافلة نقل الأسرى "البوسطة" طريقها في بقعةٍ صفراء وقاحلةٍ على امتداد البصر، وخالية سوى من قرى غير معترفٍ بها ومعسكراتٍ لتدريب جنود الاحتلال، ثم عند وصولها سجن النقب، يبدأ الأسرى بالنزول وسط حراسة مشددة، وتتعرف حاسة الشم لديهم مع أول أنفاسهم على رائحة الرمل، حيث يصاب النزيل المستجد في أول أيامه بحساسية في جهازه التنفسي، تصاحبه حالة مستمرة من الرشح؛ نتيجة استنشاق الهواء الجاف المُحمّل بذرات الرمال. تبدأ الحساسية بالتلاشي بعد أسبوع من الإقامة، بعدما يكون جهازه التنفسي بدأ يتأقلم مع البيئة الجديدة.
إنه سجن النقب، "كتسيعوت" بالعبرية، في أقصى جنوب النقب، الثلث الجاف والملتهب من الخارطة الفلسطينية، وعلى بعد 10 كم فقط عن حدود سيناء المصرية، أقيم عام 1988، معزولاً وسط كثبانٍ رملية حارة، وهواء جاف خالٍ من الرطوبة.
يُصاب الأسير فور وصوله سجن النقب بحساسية في جهازه التنفسي، ورشح شديد، ثم يعتاد جسمه على الأجواء الجافة تدريجيًا
"لدينا حرُّ دول الخليج وإمكانيات بدو النقب". هكذا يصف الأسرى قلة حيلتهم في مواجهة الحرّ، وفي مثل هذه الأيام يتنازلوا مجبرين عن ممارسة نشاطهم الجسماني الوحيد، المشي، لأن الساحة بأرضيتها الحمراء الغامقة، والأسوار التي يتجاوز ارتفاعها 10 أمتار، تجعل القِسم كحفرة عميقة فوق الأرض، مسقوفة بالأسلاك، ومعرّضة تمامًا للشمس.
اقرأ/ي أيضًا: كريم يونس وما تبقى من أمل
تمنع قوانين إدارة سجون الاحتلال، الأسرى من ارتداء القبعات، ولذا يتجمعون في مناطق اكتشفوا فيها مساحة صغيرة من الظل، وأغلبهم يكون ممددًا على الأرض كأنما أصابهم دوار، خاصة كبار السن منهم.
وفي ساعات النهار، يصبح الجلوس في الغرف عصيًا على الاحتمال، وخلال ساعات ما بين الظهر والمساء؛ يكون أحد الأسرى قد بادر بإعداد وجبة الطعام لرفاقه التسعة، مستخدمًا "البلاطة الحرارية" في الطهي، ما يضاعف حرارة الغرفة، فيكون مستحيلاً على أحدٍ سواه البقاء في الداخل، ويضطر الباقون للخروج للفورة.
ويتخلل الفورة معاناة أشد قسوة، إذا لا يستطيع الأسير التبرد بالماء، لأن المياه في الحنفيات ساخنة، وحتى الاغتسال له مردود عكسي، لأن "الدُّشات" مصممة بلا فتحات تهوية، فيبدأ الأسير التعرق منذ ملامسة المياه الدافئة لجسده.
يُحرم أسرى النقب من ارتداء القبعات، ولا يستطيعون شرب المياه أو الاغتسال نهارًا بسبب حرارتها العالية
النجاة من الحرّ تكون باللجوء لمناطق الظل داخل القِسم، امتدادات قصيرة من الظلال المتقطعة، وبعكس الأساطير الإنسانية التي عرّفت النور بالخير، والظل بالشّر، يقترن ظل المعتقل بالمأوى والبقاء.
البناء الهندسي لكل قِسم، مصمم على شكل مستطيل، والغرف تكون من طابقين ومصطفة بشكل طولي، حتى يكون الأفق أمام الأبواب عرضيًا ومحدودًا، وهو تصميم قديم على الطريقة الإنجليزية؛ ليكون مجال النظر لمن هم داخل الغرف قصيرًا ومقتصرًا على عرض الساحة، فيما يبدو القسم طولاً وعرضًا مكشوفًا بوضوح لغرفة السجانين الواقعة في آخر المستطيل.
أما غرف الطابق العلوي من القسم (6 غرف) فتكون مواجهة تمامًا لأشعة الشمس، تصل منتصف النهار لمرحلة الغليان، هذا قبل أن تكون "البلاطة الحرارية" قد اشتعلت في كل غرفة لأجل إعداد الطعام، وقبل أن تكون غسالة القِسم قد بدأت بتسخين الملابس لتجفيفها، وآلة التجفيف تعمل على درجة حرارة 70-100 درجة مئوية، فتنتقل سخونتها للغرفة المجاورة، والغرفة التي فوقها، وتلقائيًا ترتفع درجة حرارة القسم بأكمله، دون توافر أي إمكانيات للمقاومة.
اقرأ/ي أيضًا: عن الهوس الأمني في السجون
وحدها غرفة إدارة المعتقل - المُحصّنة أمنيًا - تكون مجهزّة بأجهزة التكييف، ومصممة بطريقة تحفظ للسجّانين برودة دائمة، ونوافذها محكمة بوجه الرمال، بالإضافة لوجود ثلاجة خاصة وما يزيد عن حاجتهم من مياه مثلجة وجدران عازلة تحفظ برودة الغرفة.
تنص المادة 25 من اتفاقية جنيف لمعاملة أسرى الحرب على أن "يتوفّر في مأوى أسرى الحرب ظروف ملائمة ومماثلة لما يتوفر لقوات الدولة الحاجزة" إلّا أن هذه المادة وغيرها العشرات من مواد الاتفاقية تبقى حبرًا على ورق.
نوافذ غرف الأسرى مشرعة للعواصف الرملية صيفًا وشتاءً، المراوح مقسمة على الأسرى بحيث يكون لكل سريرين مروحة واحدة، فالغرفة التي تضم 10 أسرى، فيها أربع إلى خمس مراوح فقط، دورها الوحيد أن تقوم بتحريك الهواء الساخن داخل الغرفة، علمًا أن هواء النقب جاف وخال من الرطوبة، وتحريك الهواء بدل تجديده، يؤدي في معظم ليالي الصيف إلى التصاق الجسد المعرق بالفرشة الاسفنجية، ثم مغادرة الأسير لسريره، وجلوسه على كرسي بلاستيكي في وسط الغرفة، إنقاذًا لجسده الذائب في العرق والاسفنج.
يُعلّق الأسير المحرر جبريل عبد الرحمن (قضى 8 سنوات في الأسر) بأن الاستفاقات المتتابعة في ليل النقب الحار، سببها أنه دائمًا كان يحلم بالثلوج التي تساقطت على قريته "دير أبو مشعل" في طفولته!
وفي حالة الأسرى بالذات، وبحسب فرويد، تكون الأحلام هي ملعب الأفكار المكبوتة، أو تطبيقًا عمليًا للنشاطات المحرومين منها، فمن الطبيعي أن يهربوا بأحلامهم في ظل هذه الأجواء الخماسينية لمثلجات ومسابح وأشجار وثلوج وملابس خفيفة.
وأحلام الأسرى تظلُّ قيد الوشوشات غير المعلنة، وإن خرجت للعلن، فتكون من خلال احتجاجٍ مثل الإضراب الأخير عن الطعام (17 نيسان/إبريل 2017)، إذ كانت أول مطالبهم توفير مُكيفات في الغرف، استنادًا إلى ما نصت عليه المادة 25 من اتفاقية جنيف، واستنادًا إلى أن المكيف أوفر ماديًا لإدارة السجن من خمس مراوح مسرفة للكهرباء والتصليح والتبديل، ولا فائدة عملية منها.
يصطدم الأسرى في سجن النقب مثل غيره برفض إدارة سجون الاحتلال لمطالبهم الطبية والمعيشية، متذرعة بالتكلفة المادية العالية، وهذا الرفض مع حسبة التوفير المادي لصالح "الشاباص"، يجعل من الإدارة تعرّف نفسها بأنها أداة للقهر، وأن الإمكانيات والتكلفة لم تكن هي العائق!
ربما يظل المطلب حلمًا، يُضاف إلى قائمة طويلة من الأحلام لأناس عاشوا عشرات السنين وربما يتلوها عشرات أخرى، ظلّت معاناتهم نافية للتأقلم، فما زالت كتب تفسير الأحلام - بحسب أسرى محررين وعائلات - هي الأكثر طلبًا وانتشارًا داخل السجن، إنها ملعبهم الأخير في الغرف الصغيرة المكتظة التي يُحشر فيها 10 أفراد.
رحلة أسرى النقب إلى العيادة أو المحاكم تستغرق يومين، يجلسون خلالهما على كراسي حديدية ساخنة، وقد يتعرضون للضرب لو طلبوا شربة ماء
وفي "البوسطات"، يجلس الأسرى صيفًا وشتاءً على كراسيها الحديدية، وطوال الطريق تكون أيديهم وأرجلهم مكبلة أيضًا بأصفاد حديدية. وفي أي نقل لخارج السجن، سواء كان زيارة للعيادة أو نقلاً لسجن آخر قريب، تجوب البوسطة، إمعانًا في التعذيب، بأسرى النقب الثلثين الباقيين من خارطة فلسطين التاريخية، فتمر بهم على كافة السجون، من معتقل النقب في أقصى الجنوب، إلى معتقل الجلمة أقصى شمال فلسطين، في رحلة قد تستغرق يومين كاملين، مكبلين وجالسين على الحديد الساخن، وتحت حراسة مشددة، وفي هذه الأجواء يُعتبر طلب الأسرى من وحدة حراسة "البوسطة" (النحشون) أثناء تلك المسافة الطويلة لزجاجة ماء بارد، بمثابة مخاطرة قد تعرضهم لاعتداء الوحدة عليهم.
ويسكن النقب المحتل 100 ألف فلسطيني من البدو، يسكنون في بيوت من الصفيح، أو في خيام، ويعيشون بلا مقومات الحياة الأساسية من بنى تحتية وكهرباء، إذ تمنعهم قوانين الاحتلال الإسرائيلي من البناء الاسمنتي أو تطوير أماكن سكنهم، بل وتهدف كل قرية منهم من حين لآخر بهدف تهجيرها لصالح معسكرات تدريبية أو مستوطنات أحيانًا.
اقرأ/ي أيضًا: