08-أكتوبر-2024
الطفلة سيلين غيظان

الطفلة سيلين غيظان

عشرة أشهر من عُمر الطفلة "سيلين"، لم يكن لأحدٍ من أقاربها حظوة الاستفراد بها وهي تلتصقُ بصدر أمّها رضيعةً تُلازمها كظلّها منذ وُلدت، لكنّ قذائف الموت التي يُسقطها الاحتلال الإسرائيلي كانت كفيلة بانتزاع الرضيعة عن أمها انتزاعًا أخيرًا، في قصفٍ فُجائي طال الشقة التي تؤويهم كنازحين فجر يوم 22 أيلول/سبتمبر الماضي، وهو القصف الذي لم يُكتب لأحدٍ فيه النجاة باستثناء الطفلة الرضيعة من بين 26 شخصًا كانوا نيامًا آمنين في المكان نفسه.

ستةُ أسابيعَ كانت قد مضت على بدء الحرب على غزة، وكان رعبًا مضاعفًا أن تنقطع الاتصالات عبر الهواتف المحمولة، لتوشك وساوسُ الموتِ أن تذهب بعقول عائلة الشابة حنين دبابش (26 عامًا)، التي فاضلت بدورها بين اختيارات الموتِ أو النزوح، فآثرت طوعًا أن تبقى في الشمال.

"كنا نمشي فوق الركام الذي غطى جسدها تمامًا. سيلين كانت تحتنا ونحن ننتشل الجثث ذهابًا وإيابًا" يقول عبد الرحمن، الخال الوحيد لـ"سيلين"

مساء الثلاثاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ظفرت حنين وأخيرًا بصوت أهلها بعد عودة مؤقتة للاتصالات، لتنجح مكالمة الحياة بإعادة النفس لوالديها اللذين أصرا على دعوتها إلى الغداء ظهر اليوم التالي، أرادت أمّها بذلك أن تطفئ جمر الشوق لابنتها وأطفالها الثلاثة "وليد وايلين وسيلين". حينِها لم يكن ممكنًا أن يتنقّل المواطنون بين الشوارع الرئيسية بالراحة، وقد حاصرت الدبابات أحياء المدينة الغربية، وقذفت بنيرانها في كلّ شارع.

بعد ساعتين من صوت الانفجار الذي هزّ أبدان العائلة التي لا يفصلها عن مكان ابنتها غير شارعٍ واحد فقط، تساءل الجميع "الله أعلم، وين القصف" ليبادر أحد الأقارب بالاتصال: "القصف آخر شارع الجلاء على البيت الذي تنزح فيه أختك حنين".

فُجع عبد الرحمن بوجه أخته المغطى بين الجثث، كان عليه أن يُسرع في وداعها ليتنقل بين الجثث، ويُصدّق بالفعل أن كلّ من كان في البيت قد استشهد بالفعل. "كنا نمشي فوق الركام الذي غطى جسدها تمامًا. سيلين كانت تحتنا ونحن ننتشل الجثث ذهابًا وإيابًا" يقول عبد الرحمن، الخال الوحيد لـ"سيلين".

افتراقُ الأصواتِ بعد نقل الجثامين جميعها لأقرب عيادةٍ، تمكن عبد الرحمن من أن يستمع لأنين الجسد المفقود، ولضعف الصوت فقد كان مستعصيًا على البحث، وغريبًا عليه أن ينجو.

داخل بركة مياه متراكمة أحدثها انفجار الخزانات غرقت "سيلين". كان الجميع يتلمّس الأنفاس الأخيرة في كلّ جسدٍ يمكن أن يمنحه القدرُ وقتًا إضافيًا ليعيش، لكنّ الرضيعة التي كانت تنام بجانب أمها طارت من الشقة في الطابق الأول إلى أرضية الممر الفاصل مع بيت الجيران، ولم يكُن في حسبان أحد أن الطفلة التي تحاول الصراخ كانت تغرق تحت الماء المتسرب.

يضيف عبد الرحمن: "أرشدَنا إليها أنينٌ متقطعٌ بعد ساعاتٍ من البحث المُضني"، جازمًا وهو يُقلّبها بين يديه بأنه النزاعُ الأخير حتمًا.

"بتتنفس، والله بتتنفس" صرخ عبد الرحمن رغم تشبّع الرضيعة بالماء، واختناقها مع قلة الهواء، لتقفز أقدامه الراجفة بين مناطق الخطر متنقلةً بين لجان الطوارئ الطبية داخل مدارس النازحين القريبة، والتي ليس بمقدورها إلا إسعاف الطفلة بشكلٍ مؤقت.

لم يكن سهلًا أن تستفِيق سيلين من غيبوبتها نتيجةً لتجمّع الماء في صدرها، ونزْفُ الدمّ في دماغها بعد أن سقطت من علوّ مع شدة الانفجار، وانكسر فخدُها الأيسر.

فقدت الرضيعة أمها وأباها وأخوينِ هما "وليد" و"إيلين"، كما استشهد في نفس الغارة جدّيها لأبيها وعماتها وأعمامها. كانت "سيلين" الناجية الوحيدة في قصفٍ إسرائيلي أتى على مكان نزوحهم بكلّ من فيه.

ترفض الطفلة الرضاعة الصناعية، ولا تُقبل إلا على صدر أمها، كانت هذه أصعب المحاولات لإنقاذ حياتها بعد مرحلة الاستفاقة، ولعلّها لم تقبل الكمادات ولا المقويات الغذائية ولا الدواء أيضًا؛ لأنّ يدًا ليست لأمها تُلقمُها إياه، ولا وجهًا يشبه ملامح أبيها يحدّق بلعثمات طفلته حين تهجىء قبل كل الأسماء "بابا .. بابا".

استمرت المحاولات التي حبست أنفاس الطفلة في كلّ مرةٍ ينفرد بأحشائها الألم، ولعلها ضاقت أكثر حين حوّطت الجبيرة كامل قدميها، وحوضِها بعد عملية جراحية لتثبيتهما، منعتها من الجلوس أو الوقوف أو حتى الحركة بعد أن كانت تخطو خطواتِها الأولى قبيل الانفجار. كان كثيرًا عليها أن تفهم كل ما يحدث فتبكي، وكلما بكت "سيلين" بكت جدتها وخالاتها معها.

فقدت الرضيعة "سيلين" أمها وأباها وأخوينِ كوجهيِ القمر هما "وليد" و"إيلين"، كما استشهد في نفس الغارة جدّيها لأبيها وعماتها وأعمامها

بين أطفالٍ يقاربونها في العمرِ، أو يكبرونها قليلًا في بيت جدّها لأمّها تتوه "سيلين" في من تكون بالفعل أمًا لها برغم تعلقها الشديد بأمها سابقًا. لكن شدّةً أتت على ذاكرتها غير المشبعة دفعتها لتقليد الصغيرات اللواتي ينادين أمهاتهنّ، فتردد خلفهنّ حائرةً تقصد خالاتها "ماما"، وأَما "بابا" فليس سوى خالها عبد الرحمن تستندُ إليه كلما تهوي بمشيتِها نحو شِقّها الأيسر. يحدث ذلك الآن بعد حرمانها من العلاج الطبيعي الذي لم تتوفر تمارينه المقررة وسط حصارٍ طال أغلب العيادات التخصصية شمال القطاع.

الطفلة سيلين غيظان

لا تعرف "سيلين" اليوم غير ندبة الإصابة في رأسها، وعرجة الكسر في فخدِها، وهي تجهل ما قبل ثلاثاء الموت، وكأنها وُلدت منذ عشرة شهور فقط، أما الشهور العشرة التي سبقت المذبحة فذاكرةٌ مشقوقةٌ وسرٌ مؤجلٌ ستبكيه بحرارةٍ حين تكبُر.

مجهولون

الطفلة سيلين أحمد غيضان من بين 600 ألف حكاية مهجورة لأطفالٍ يحاصرون داخل حدود القطاع، ويتعرضون لصدماتٍ نفسية كبرى حسب المفوض العام لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، تولّدت عبر جرائم القتل والتجويع والتهجير الذي يمارسه جيش الاحتلال بحقهم وأهاليهم، بينما تُغلق في وجوههم أبواب العلاج النفسي غير المتاح بطبيعة الحال، ما يبدو أنه رفاهية ليست في وقتها، في نفس الوقت الذي يُحرمون فيه من حقوقٍ علاجيةٍ أكثر إلحاحًا، حيث ما زالوا حتى هذا اليوم شهود عيان على أشدّ فظائع الموت الذي يلاحقهم أينما وُجدوا.

موتٌ معنويّ بطيء تراقبه الهيئات الأممية ومنظمات حقوق الطفل، لتُسجله بخجلٍ عبر إحصاءاتها المنشورة، بينما لا يجرؤ على تغيير الواقع الدّامي منهم أحد.