لخمسة أيام ظل جثمان الشهيد أحمد أبو مصطفى ملقى على الأرض، لم يستطع أطفاله أو أحد من النازحين في "مدرسة خالدية" في المخيم الغربي بخانيونس جنوب قطاع غزة سحبه وإسعافه، ونزف حتى فاضت روحه، جراء عيار ناري أطلقه قناص إسرائيلي وأصابه برأسه.
وقعت هذه الجريمة في 28 يناير/كانون الثاني الماضي، أثناء العملية البرية الإسرائيلية في خانيونس، وكان أبو مصطفى (40 عامًا) نازحًا بزوجته الحامل وأطفاله السبعة من المنطقة الشرقية إلى هذه المدرسة في المخيم الغربي، ويقول شقيقه الدكتور محمد لـ"الترا فلسطين": "رفض أحمد النزوح مرة ثانية نحو المواصي أو رفح ومكث في المدرسة يرعى أسرته والنازحين من كبار السن".
يقدر عدد الشهداء المدفونين في مقبرتين جماعيتين داخل ساحة مجمع ناصر الطبي بـ 600 جثمان
"هذه جريمة إعدام ميداني"؛ يصف محمد استهداف قناص إسرائيلي لشقيقه أحمد الذي خاطر بنفسه وخرج من المدرسة بحثًا عن ماء للشرب، وعلى بعد 30 مترًا أصابه عيار ناري في الرأس، وكلما حاول أحد من أطفاله والنازحين الوصول إليه وسحبه يفتح قناصة الاحتلال النار عليهم بكثافة.
إعدام ميداني
على مرأى من أطفاله وأكبرهم 16 عامًا وأصغرهم رضيع في عامه الأول، ظل أحمد جثة هامدة على الأرض لخمسة أيام، ويقول الدكتور محمد: "كانت أحزان الأطفال مضاعفة وهم يشاهدون والدهم جثة على الأرض على مدار اللحظة، ولا يستطيعون فعل شيء، سوى إلقاء الحجارة نحو القطط وكلاب الشوارع التي تحاول الاقتراب منه ونهشه".
ولاحقًا نجح متطوعون في انتشال الجثمان ونقله بواسطة عربة يجرها حيوان "كارو" إلى مجمع ناصر الحكومي في المدينة ودفنه في ساحة المجمع، الذي شهد "جرائم مروعة" إثر حصاره من قوات الاحتلال، وتشير بيانات فلسطينية إلى أن مئات النازحين والمرضى تعرضوا للتعذيب والإعدام الميداني والدفن في مقابر جماعية داخل المجمع.
قبل نحو أسبوعين وبعد عملية اجتياح واسعة استمرت 4 شهور انسحبت قوات الاحتلال من مدينة خانيونس، ولا تزال عمليات بحث السكان عن ذويهم المفقودين مستمرة، وإثر جهود متواصلة لثمانية أيام نجح الدكتور محمد وأشقائه وثلة من الأقارب والأصدقاء من العثور على جثمان الشهيد أحمد.
اهتدى محمد ومن معه إلى مكان دفن أحمد بناء على تتبع روايات الشهود، ونبشوا الأرض بأياديهم وبأدوات بسيطة، وأخرجوا الجثمان ودفنوه يوم الاثنين الماضي في مقابر العائلة غرب خانيونس.
لا يتستر محمد على حزنه الشديد لفقده شقيقه أحمد، لكنه يشعر برضا لم ينله آلاف من ذوي المفقودين، بعثوره على جثته وإكرامه بالدفن وفق الأصول الشرعية والعائلية.
عائلات تنتظر انتشال جثامين أبنائها ممن كانوا مفقودين في مستشفى ناصر الطبي بعد دفنهم بمقابر جماعية على يد الاحتلال pic.twitter.com/JqcEQD56lt
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) April 26, 2024
مفقودون ومقابر جماعية
خلال بحثهم عن جثمان شقيقه الشهيد أحمد اكتشف الدكتور محمد ومن معه مقبرة جماعية تضم 10 قبور لشهداء، وقد نجحت طواقم الدفاع المدني حتى اللحظة من انتشال أكثر من 360 جثمان شهيد من داخل مجمع ناصر، وجثامين أخرى مدفونة في مناطق متفرقة من مدينة خانيونس، من بين المدفونين في المجمع أكثر من 100 جثمان لشهداء مجهولين.
ويقدر مدير إدارة الإمداد والتجهيز بالدفاع المدني الدكتور محمد المغير أن عدد الشهداء المدفونين في مقبرتين جماعيتين داخل ساحة مجمع ناصر الطبي سيصل إلى 600 جثمان شهيد، بينها عدد غير محدد من مجهولي الهوية، إضافة إلى أعداد أخرى من الشهداء في مقبرة جماعية خارج أسوار المجمع.
ويكشف المغير لـ"الترا فلسطين" عن شواهد تثبت أن قوات الاحتلال ارتكبت جرائم إعدام ميداني، وتعمدت ترك الجرحى ينزفون حتى الموت، وقد ظهرت على 5 شهداء علامات تكبيل للأطراف من الخلف وربما جرى إعدامهم بعد انتهاء التحقيق معهم، وآخرين كانوا مصابين بأحد الأطراف إصابات غير مميتة ويرجح أنهم تركوا ينزفون حتى الموت أو ربما دفنهم الاحتلال وهم أحياء.
وقال إن الجثامين التي تم انتشالها حتى اللحظة تعود إما لشهداء أعدمتهم قوات الاحتلال ميدانيًا خلال اجتياحها لمجمع ناصر وإهالة الرمال عليها عشوائيًا في ساحة المجمع، وجزء آخر من هذه الجثامين تم دفنها في مقابر جماعية لتعذر الوصول إلى المقابر في خارج المجمع في فترة حصار الاحتلال له.
ويتسلم أهالي الشهداء جثامين أبناءهم بعد التعرف عليهم والتحقق من هوياتهم، لدفنهم في مقابرهم العائلية أو العامة، فيما الشهداء المجهولين يتم فحصهم جنائيًا وتحديد العلامات الفارقة في أجسادهم، والتقاط الصور لهم من مختلف الزوايا، وتكفينهم ووضعهم في أكياس مميزة بالأرقام والرموز، ودفنها وفق الضوابط الشرعية في مقبرة واحدة من الباطون إلى حين التعرف عليهم، وفقًا للمغير.
ولا يزال زهاء ألفي مفقود تحت الأنقاض في خانيونس، وألف آخرين في المحافظة الوسطى من القطاع، يقول المغير إن الدفاع المدني لا يستطيع انتشال هؤلاء الشهداء لعدم توفر المعدات والآليات اللازمة.
جرائم الإبادة مستمرة
يقول رئيس "الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني -حشد" المحامي صلاح عبد العاطي لـ"الترا فلسطين": "تجاوزت حرب الإبادة على غزة 200 يوم ولا تزال تتكشف كل يوم جرائم جديدة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، أخطرها المقابر الجماعية المنتشرة في جميع مناطق القطاع".
وقد رصدنا جرائم إعدام ميداني ارتكبها الاحتلال بدم بارد بحق فلسطينيين تم العثور عليهم مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين، ومدفونين في مقابر عشوائية في المناطق التي توغلت بها قوات الاحتلال، خاصة في مستشفيي الشفاء بمدينة غزة وناصر في مدينة خانيونس، وغيرها من المناطق، بحسب عبد العاطي.
ويضرب مثلاً بمستشفى الشفاء حيث اجتاحته قوات الاحتلال وقد تم العثور بعد انسحابها على زهاء 400 جثمان لشهداء، بعضهم جرى دفنهم مكبلين ومعصوبي الأعين، ما يشير إلى أن الاحتلال سيطر عليهم ولم يشكلوا أي خطر عليه، ويرجح أنهم تعرضوا للتعذيب "بوحشية بشعة تعجز عنها الشياطين" مثلما وصفها عبد العاطي، وبعد ذلك أعدمهم ودفنهم عشوائيًا داخل ساحة المستشفى.
وفي مشهد مماثل ولا يقل مأساوية تم الكشف حتى اللحظة عن 3 مقابر جماعية داخل مجمع ناصر وفي محيطه، ويوميًا تنتشل الطواقم المختصة جثامين شهداء من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، كانوا يحتمون بالمستشفى وقت اقتحامها، وتظهر عليهم علامات تدلل على أنهم تعرضوا للتعذيب والإعدام الميداني.
وتوثق الهيئة الدولية هذه الجرائم وأحالتها لمحكمة الجنايات الدولية، وكشف عبد العاطي عن دعاوى قضائية رفعتها الهيئة في عدد من الدول استنادًا لمبدأ الولاية القضائية الدولية إزاء جملة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في القطاع، وأسفرت عن عشرات آلاف الشهداء والجرحى، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف مفقود، ودمار هائل في الممتلكات الخاصة والعامة والبنى التحتية.