في إحدى زوايا ساحة قسم 61 في سجن الدامون، كانت تجلس روان أبوزيادة أرضًا كل يوم في الفورة المسائية، أمامها كميةٌ من بذور مخلل الزيتون التي هي في الأصل مخلفات طعام، تنحت أطرافها المدببة على أرضية الساحة التي كانت صبة باطون خشنة، وتواصل النحت حتى تتحول الأطراف المدببة لتصير مسطحة، محوِّلةً شكل بذرة الزيتون إلى أسطوانة صغيرة. ترافق روان في ذلك ميسون موسى، تجلسان يوميًا حتى تنهيان عملية "الحت"، ثم تثقبان بإبرة خياطةٍ البذرة طوليًا ليصبح بالإمكان نظمها في خيط حرير، لتشكل هذه البذور مسبحة.
المسبحة المصنوعة من "عجم الزيتون"، هي أقدم ما بدأت به الأسيرات الفلسطينيات مشوار العمل اليدوي في سجون الاحتلال
حُكِمَ على روان بالسجن تسع سنوات، فيما حُكِمَت ميسون 15 سنة، ونظرًا لطبيعة قضيتهما المتشابهة، فإن الاحتلال يتعنت في إصدار تصاريح الزيارة لعائلتيهما إلا مرة كل ثلاثة شهور، وأحيانًا قد تتجاوز المدة بين الزيارة والزيارة ثلاثة شهور. وفي الانتظار بين الزيارة و الزيارة تعكف الشابتان على إعداد ما يمكنهما من هدايا يدوية تقومان بإخراجها للأهل يوم الزيارة.
اقرأ/ي أيضًا: "زهرات" تحكي كيف تقضي الأسيرات القاصرات أيامهن
والمسبحة المصنوعة من "عجم الزيتون"، هي أقدم ما بدأت به الأسيرات الفلسطينيات مشوار العمل اليدوي في سجون الاحتلال، الذي كُنَّ يمارسنه سعيًا للانتصار على ذبح أرواحهن البطيء، تحت وطأة الوقت المثقَل بالفراغ، ولا تزال هذه المسبحة إلى اليوم تصنع داخل السجن. في "حتِّ" كل بذرةٍ يتكثف حنينٌ و لهفة، صور أحبةٍ و ذكريات وأحلامٌ بحرية كلما دنت ابتعدت كبصيص ضوءٍ يلمحه سائرٌ في ليل صحراء، لا بدَّ له أن يلاقيه لكن المسير أمامه طويل!
يشير تاريخ الحركة الأسيرة إلى أن مفهوم العمل اليدوي، وُجِدَ كأحد وجوه الصحوة الفكرية التي شهدتها السجون مطلع سبعينات القرن الماضي، حيث تمرَّد الأسرى على النظام الذي كان معمولًا به آنذاك؛ الذي ألزمهم بالعمل ضمن مرافق السجون كعمال سخرة تُقَدَّم لهم السجائر كمقابل، فقرروا العزوف عن العمل والثورة على هذا السلوك الاستعبادي المتبع بحقهم.
كانت تلك نقطة التحول في أسلوب قضاء الوقت في السجن، من كونه وقتًا في العمل ضمن مرافق السجن، إلى وقتٍ فارغٍ أخذت الحركة الأسيرة على عاتقها تعبئته بما يرقى بفكر الأسرى ويستوعب طاقاتهم ضمنه، فكانت النشاطات الفكرية التي اتخذت في أحد أشكالها العمل اليدوي الذي بدأ عند الأسيرات قبل الأسرى بحكم طبيعة المرأة الفلسطينية المرتبطة منذ نشأتها بممارسة العمل اليدوي.
جاء العمل اليدوي للأسرى في السجون تمردًا على العمل بالسخرة الذي كانت تفرضه سلطات الاحتلال عليهم
من هناك بدأت قصة المسبحة المصنوعة من بذور الزيتون التي كانت مادة العمل الوحيدة المتوفرة في السجون، قبل أن يتطور دور الصليب الأحمر، ويصل بعد نضالاتٍ خاضها الأسرى لمرحلة إدخال بعض المواد الخام للأعمال اليدوية.
اقرأ/ي أيضًا: المحررة عطاف عليان والفدائي الذي قتلها عشقًا
تعتمد الأسيرات على ابتكار الأفكار في العمل، فتجد ما تضعه أنت في بيتك بشكل بديهيٍ في سلة القمامة قد وُظِّفَ لإتمام تحفة فنية!
فمثلاً، لا تتخلص الأسيرات من العلب الحديدية بعد إفراغ ما تحتوي من معلبات، إنما يحتفظن بها ويُطرزن النقوش الفلسطينية المتوارثة في هذا الفن، ثم يُغلّفن العلب بالقطع المطرزة. ونظرًا لانعدام المواد اللاصقة في السجن، فإنهن يضبطن قياس قطعة القماش بما يتناسب مع حجم العلبة، ثم يَخِطْنَ طرفي القماشة بخيطٍ بلاستيكيٍ متينٍ أصله كيس البطاطا، تعرفه؟ الكيس الأبيض أو الأحمر ذو الخيوط المتشابكة الذي يُلقى في القمامة في البيوت العادية، لكنه كان في السجن خامة ثمنية!
بالمناسبة، ألم يخطر ببالك كيف يقمن بقص القماش؟
ليست المواد اللاصقة فقط المحظورة في السجن، أدوات الخياطة لا يتوفر منها إلا إبر التطريز، وقانون إدارة مصلحة السجون يحظر اقتناء أي أداة حادة كالمقص أو السكين.
الغطاء العلوي للمعلبات الذي تزيله مسرعًا وتلقيه في القمامة، هو في السجن مقص القماش وسكين تقطيع الخضار، وله في غرف الأسيرات موقعًا يخصه تترتب فيه مجموعةٌ من الأغطية المعدنية لهذا الغرض، وهي بالمناسبة ممنوعةٌ أيضًا، وفي حال شعور الأسيرات باقتراب جولة تفتيش للغرف من قبل الإدارة، يُلقين هذه الأغطية في القمامة اتقاءً لشر يحدث لو وُجِدت هذه الأغطية في خزانة أواني المطبخ مثلاً.
مؤخرًا، قلَّصت إدارة سجون الاحتلال، الكميات المسموح بإدخالها من قماشٍ وخيوط حرير ملونة وأدوات تلوين وخرز ملون، ولا يسمح لأي جهةٍ بإدخال هذه المواد سوى الصليب الأحمر. ورغم أن الأسيرات في فترة نهايات الانتفاضة الثانية استطعن انتزاع حقهن في إدخال هذه المواد خلال زيارات أهالي الأسيرات، إلا أن الإدارة عادت لمنع هذه الآلية وحصرها في الصليب الأحمر، وبتقليص شديد وعلى فترات زمنية متباعدة، مرة كل 6 أشهر أو ما يزيد.
تُعِدُّ روان وميسون الهدايا، وتعددان أهلهما ولمن خُصِّصَت كل قطعة، تسعيان لاختيار إنتاج هدايا توافق أذواق أفراد أسرتيهما، وكأن أمامهما سوقًا كاملاً لا خيارات محدودة. برعت روان في تغليف أقلام الحبر بالخرز الملون المحبوك بخيوط أكياس البطاطا، وتعدُّ بذات الألوان أغلفة من الخزر للقداحات. تمارس هذا العمل ليلًا في الغرفة، تتحدث عن أشقائها الذين تخصهم بهذا النوع من الهدايا، وبعضهم ممنوعٌ بشكل نهائي من زيارتها، تشعر وأنت تستمع لها أنها تَحْبِكُ الخزر بخيوطٍ من شوق قلبها و لهفته لأهلها.
الهدايا في السجن لا تُصنع باليد، بل من نبض القلب ومهجة الروح
الهدايا في السجن لا تُصنع باليد، بل من نبض القلب ومهجة الروح، من تهدِّج الصوت حين يحكي ذاكرة القلب، فترى في العين بريقًا جريحًا لدمع الشوق يخالطه الأمل. إنها تُصنع من صورٍ حاضرة لا تذوب تقرؤها في مبسم صاحبة الحكاية وتفاصيل يومها، ومن الظمأ للحظة أمان وأُنْسٍ بين يديهم يبدد وحشة السجن.
اقرأ/ي أيضًا: ما وراء الضحكة!
في الليلة التي تسبق الزيارة تجد الجميع منهمكًا في إتمام تجهيز الهدايا، ليتم تسليمها في الصباح لإدارة السجن حيث تخضع كافة المشغولات لتفتيشٍ دقيقٍ "لأسباب أمنية" حسب وجهة نظر الإدارة، عدا عن تحديد عدد القطع المسموح بإخراجها بشكل شهري، خصوصًا العلب الحديدية المغلفة بالمطرزات، فتصل الهدية على مراحل لأهل الأسيرة. كما تمنع الإدارة إخراج أي مشغولاتٍ محشوةٍ بالقطن أيضًا لدواعٍ أمنية كما تدعي، فلا تخرج هذه المشغولات إلا بخروج الأسيرة أو بإرسالها مع أسيرة أخرى سبقت صاحبتها في التحرر.
وحدها نسرين أبوكميل (45 عامًا) تعدُّ الهدايا ولا تصل لأسرتها، تنهي العمل فيها و تضعها جوار سريرها ثم تنهمك في مساعدة الأسيرات الأخريات في إعداد هداياهن. نسرين أبوكميل من مدينة غزة، اعتقلت نهاية 2015 وحُكِمَ عليها بالسجن 6 سنوات، ولا تتمكن أسرتها المقيمة في قطاع غزة من زيارتها بسبب منع الاحتلال أهالي قطاع غزة من زيارة أبنائهم. كلما أعدت قطعة ذكرت لمن تعدها مع سيل عذب من الحكايا لا ينتهي عن أولادها و زوجها. لم تبقِ أحدًا وصلها خبرٌ أنه ساند أولادها في غيابها إلا و خبأت له قطعةً مما تصنع يداها.
تحمل الهدايا المحضرة في السجن معانيَ أكبر من هدية عادية قد يتلقاها أي أحد
تحمل الهدايا المحضرة في السجن معانيَ أكبر من هدية عادية قد يتلقاها أي أحد، إنها تأكيدٌ ملموسٌ منتزعٌ من العدم على أن الفلسطينية حتى في سجنها تعاند ألم الانطفاء، وإن كان أُريد لها فيه أن تموت روحًا وتذبل جسدًا، فإنها منذ أن جمعت بذور الزيتون عن طاولة الطعام وبذلت جهدها في "حتها" بدلًا من رميها في القمامة، اختارت أن تستمر في معركة الحياة، وأن تظل فيض الحب دائمًا.
تخلق هذه الهدايا أثرًا عظيمًا من الطمأنينة في نفوس أهالي الأسيرات أن بناتهم بخير، وأنهن قادراتٌ على إشغال وقتهن بما يهوِّن عليهن مشقة السجن، وهذا يخفف من وطأة قلقهم. تحوز مشغولاتهن في قلوب أهلهن على مزيج من شعور الحب والفخر و الشوق. توضع في زاويةٍ من البيت وتُحكى قصصها للجيران والأقارب، مع دهشةٍ تروي ظمأ الاشتياق حين يرون أن فتاتهم التي ما كان لها من هذا الأمر شيءٌ في حريتها، صارت مدرسة فيه في سجنها!
تعيش روان وميسون ورفيقاتهن في السجن على أمل الحرية، وحتى يتحقق ذلك الأمل، تظل هداياهن لأهلهن تجدد أثرهن في الخارج، تحكي أن ثمة بشر وراء أسوار و أسلاك لا زالوا أحياءً يدللون على حياتهم بصنع أيديهم.
اقرأ/ي أيضًا:
أسيرات الثورة: لم يحفظوا كرامتنا في الكبر