مارست السلطة الوطنية الفلسطينية منذ قيامها عام 1994 عمليات خصخصة، ومنحت عددًا من عقود الامتياز (التي تمثل نوعًا من أنواع الاحتكار) للقطاع الخاص، بهدف استغلال الموارد الطبيعية وإدارة المرافق الخدماتية العامة، وكان من بينها عقد الامتياز الذي أبرم عام 1998، مع شركة كهرباء فلسطين لمدة 20 سنة، من أجل تمويل وبناء وتشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة.
عقود الامتياز هذه تمّت بطريقة الصدمة الاقتصادية، لتوفير موارد ماليّة على المدى القصير، وفق رؤية أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة النجاح محمود أبو الرب، الذي كان رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية سابقًا، وأشار إلى أنّ هذه الطريقة تؤدي إلى خسائر على المدى الطويل، رغم أنّ الدولة يُفترض بها أن تكون حامية للمشاريع الاستراتيجية، وأن تعمل على تطويرها وتنميتها، لا أن تسلّمها للقطاع الخاص الآتي من الخارج بشكل رئيسي.
السلطة الفلسطينية منحت عقود امتياز منذ قيامها، وكانت بطريقة الصدمة الاقتصادية لتوفير موارد مالية على المدى القصير
وقال أبو الرب، إن المبررات التي تُساق في هذه الحالات لا تنسجم مع أهداف التنمية المستدامة، "خاصة أنّ معظم الموارد المالية لم تذهب لاستثمار البنية التحتية، وإنما ذهبت للنفقات الجارية، دون أي قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد".
اقرأ/ي أيضًا: مليونيرية يقودون عصابات الشيكات البنكية
وأضاف، "السلطة لا تزال إلى الآن تدفع ثمن الأخطاء وثمن الاتفاقيات المجحفة بحق الشعب الفلسطيني التي وقعت مع هذه الشركات في القطاعات الخدماتية الكبرى، ومن بينها عقد شركة كهرباء فلسطين، الذي تضمّن شروطًا مجحفة من بينها، أنّ على الحكومة تعويض الشركة ماليًا بقيمة الفرق ما بين الطاقة المولّدة فعليًا والطاقة الكاملة".
وبحسب سلطة الطاقة والموارد الطبيعية، تبلغ قيمة التكلفة الشهرية التي تدفعها السلطة للشركة من أجل تشغيل المحطة، بغض النظر عن قيمة الإنتاج، مليوني دولار، وهي قيمة ثابتة حسب العقد، بعد أن جرى تخفيضها بقيمة نصف مليون دولار.
ومن المآخذ الأخرى على العقد، أنّ الحكومة تعهدت بتغطية كافة تكاليف توريد مادة السولار الثقيل المستخدم في تشغيل المحطة لتوليد الكهرباء، ما يجعل الاتفاقية بين الحكومة والشركة، اتفاقية إذعان من قبل الحكومة، وفق ما أفادنا به عزمي الشعيبي، الذي يشغل حاليًا منصب مستشار مجلس إدارة الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، وسبق وشغل منصب رئيس اللجنة الاقتصادي في المجلس التشريعي.
السلطة ملزمة بتغطية كافة تكاليف توريد السولار الثقيل المستخدم في تشغيل المحطة لتوليد الكهرباء، ودفع مليوني دولار بغض النظر عن قيمة الإنتاج
ويؤكد الشعيبي، أنّ الحكومة لم تقم بمراجعة الاتفاقية بعد أن أفلست شركة انرون الأمريكية عام 2001، وهي إحدى الشركات المساهمة في تأسيس شركة كهرباء فلسطين، "ناهيك عن أن اللجنة الاقتصادية في المجلس التشريعي أشارت في تقرير لها، في حينه، إلى وجوب التأكد من عدم وجود طرف واحد يحتكر إنتاج الكهرباء في قطاع غزة، خاصة في ظلّ غياب للقوانين الناظمة لعقود الامتياز أو قوانين منع الاحتكار".
ووفق سجلات سلطة الطاقة والموارد الطبيعية، فإنّ كمية السولار الصناعي الذي جرى توريده للشركة في الأعوام (2014+2015) بلغت حوالي 145 مليون لتر، بتكلفة ماليّة تقارب 529 مليون شيقل. فيما قالت سلطة الطاقة إنّ تكلفة شراء الوقود في العام المنصرم 2016 بلغت 260 مليون شيقل.
لماذا تتحمل الحكومة تكاليف توريد السولار لتشغيل المحطة؟ هذا السؤال طرحناه على رئيس سلطة الطاقة السابق عبد الرحمن حمد، الذي أُبرم الاتفاق في عهده، فأوضح لنا أنّ الاتفاق كان ينصّ على استخدام الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة وعمل المحطة، "إذ كنا نرغب في الاعتماد على حقول الغاز الفلسطينية التي جرى اكتشافها، لكنّ هذا الأمر كان يتطلّب فترة زمنية معينة، لذلك اخترنا المولدات (التوربينات) المعتمدة على الوقود المزدوج، كي نتحول فيما بعد من استخدام الوقود السائل إلى الغاز".
وأضاف حمد، "لكن بكل أسف، الظروف لم تساعد لا في استخراج الغاز الفلسطيني ولا استيراده من مصر، كما اتفق عليه مع الشركة عام 2004، ولو تم ما خطط له، لكان ذلك أرخص بكثير مما ندفعه للطرف الإسرائيلي من أجل شراء الوقود اللازم لتشغيل المحطة".
السلطة عندما أبرمت الاتفاق مع شركة فلسطين للكهرباء كانت تطمح في استخدام الغاز من الحقول الفلسطينية التي تم اكتشافها
وحول إبرام العقد قبل استكمال المنظومة القانونية، ردّ حمد بالقول إنّه لم يكن هناك قانون يمكن الاحتكام إليه، لأن السلطة ناشئة وحديثة العهد، إذ تنافست على العقد 8 شركات أجنبية من إيطاليا، وبريطانيا، وفرنسا، والنرويج، والولايات المتحدة، مبيّنًا أنّ سلطة الطاقة ناقشت هذه العطاءات والعروض بمشاركة خبراء وفنيين من النرويج والبنك الدولي، وقد ساعد طاقم قانوني أمريكي في وضع الأنظمة والقوانين الخاصة بهذه الاتفاقيات.
اقرأ/ي أيضًا: سيارات تأجير غير صالحة للسير على الطرقات
وأشار حمد إلى أنّ شركة "كهرباء فلسطين" لا تحتكر قطاع الطاقة في قطاع غزة، ودلل على ذلك بأنّ الطاقة في القطاع تُستورد من مصر وإسرائيل، إلى جانب شركة كهرباء فلسطين، مبينًا أنّ بنود الاتفاقية "لم تكن مجحفة بحق السلطة الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني على الإطلاق، خاصة أننا كنا في أمس الحاجة لأن نبني قطاع طاقة فلسطيني مستقل"، وفق قوله.
وليس بعيدًا عن هذه الرؤية، تحدّث عزمي الحاج محمد، مدير عام الإدارة العامة للسياسات في وزارة الاقتصاد، إذ دافع عن السياسات الاقتصادية للسلطة، قائلًا إن السلطة في بداياتها اهتمت بأن تكون القطاعات السيادية التي لها رمزية سياسية واقتصادية موجودة لتقدم الخدمات للمواطنين.
وقال الحاج محمد: "انطلاقًا من أنّ مثل هذه المشاريع تحتاج لتكاليف ثابتة كبيرة جدًا، أعطينا من خلال قانون تشجيع الاستثمار فترة زمنية مدروسة (تستغرق عدة سنوات) كسائر الدول الأخرى في عقود الامتياز، ومن بينها عقد امتياز شركة كهرباء فلسطين، وذلك من أجل أن نعطي المستثمر الأريحية في الاستثمار، فيبذل بذلك الأموال وينفقها في السوق الفلسطيني، وهو مطمئن لاسترداد ماله".
وأضاف، "نظرًا لكبر حجم مثل هذه الاتفاقيات والمشاريع السيادية، ولأنها وُقّعت في بداية عهد سلطة ناشئة وجديدة، ولأن الخبرة أصلًا تكون في بداياتها، فقد تكون هناك ثغرات قانونية أو غير قانونية"، لكنه استدرك بأنّ مثل هذه الثغرات يتم سدّها من خلال تعديل القوانين الناظمة لعقود الامتياز الواردة ضمن بنود قانون تشجيع الاستثمار، بما يعود لصالح الاقتصاد الفلسطيني والمواطن، كما جرى عام 2014، حيث تم استثناء مثل هذه الشركات من هذه الاستفادة، عقب دراسة وتقييم مراحل البيئة القانونية.
هذه العقود كان من الضروري أن ترتكز إلى أسس قانونية، وأن تنظم بقانون وفق ضوابط مرتبطة بتحقيق الصالح العام. يقول المحامي داوود درعاوي، إن هناك عدة اعتبارات وتحديات تعيق هذه المسألة حاليًا، أهمّها الواقع العملي، إذ كانت هناك محاولات من خلال المجلس التشريعي لإصدار قانون الامتياز العام، وقانون المنافسة ومنع الاحتكار، التي كانت ستقود تلقائيًا لو تم إقرارها إلى إعادة فتح هذه الاتفاقيات من جديد وتصويبها، ومن بينها شركة "كهرباء فلسطين".
ويبين درعاوي، أنّ "سطوة أصحاب العلاقة" الذين يحتكرون إدارة عملية المال العام في البلاد، وتأثيرهم وانخراطهم داخل السلطة التنفيذية، وعدم وجود فصل حقيقي، "جعلنا في موقف إذعان وموقف ضعيف في إعمال أي قوانين جديدة تمس بالمراكز الواقعية التي نشأت تبعًا لتطبيق هذه المنح بشكل مخالف للقانون، ولا يستند إلى مرجعية".
ودلل المحامي درعاوي على حالة الإذعان لشروط عقد امتياز شركة كهرباء فلسطين، عبر تعقيبه على بند التقاضي في حالة النزاع الوارد في العقد، الذي أشار إلى أنّه في حالة النزاع، فإن المحاكم الفلسطينية ليست جهة الاختصاص، وأنّ جهة الاختصاص هي جهات التحكيم الدولية.
يقول درعاوي: "عقد الشركة لم يتعامل مع السلطة ككيان دولة قائمة، إذ تضمن تنازلًا عن الولاية العامة للسلطة الوطنية على عقد الامتياز تبعًا للعقود الإدارية التي تعطي الحق للدولة في التدخل في العقد لحماية الصالح العام في أي وقت وبشكل منفرد في كثير من الأحيان".
الاتفاق بين السلطة وشركة كهرباء فلسطين نصّ على أنّ المحاكم الفلسطينية ليست جهة الاختصاص لحلّ أي نزاع
في المقابل، فإن شركة كهرباء فلسطين ترى أنّ هذا البند عادي، وفق ما قاله المهندس وليد سعد سلمان، المدير العام التنفيذي للشركة، الذي قال إن المرجعية القانونية في حالة النزاع لمثل هذه العقود عالميًا تجري من خلال المحاكم الإنجليزية أو السويسرية، مضيفًا أنّ القانون البريطاني واضح للسلطة ولا غبن فيه لأي طرف كان في حال تم الاحتكام إليه من أجل فضّ الخلاف، مع العلم أن فلسطين لم يكن لديها قوانين واضحة ومعتمدة في حينه".
اقرأ/ي أيضًا: الضفة: محلات إلكترونية تسرق زبائنها
وحول تعهُّد السلطة بدفع قيمة التكلفة الشهرية لتشغيل المحطة، قال سلمان: "السلطة ملزمة بحسب الاتفاق بالدفع مقابل كامل إنتاج المحطة (140 ميجاواط)، بغضّ النظر عن كمية الطاقة التي يجري توليدها، إذ أن إنتاج الكهرباء في المحطة يعتمد على كمية البترول التي تردنا، والتي تغطي الإنتاج اليومي للمحطة (بحدود 250 متر مكعب)".
ويوضح سلمان، أنّ معدل كميات البترول التي وصلت شركة كهرباء فلسطين عام 2015 لم تُشغّل أكثر من مولدين (توربينين) في المحطة، أي بين (60-70 ميجاوت)، رغم أن خزانات المحطة تتسع لوقود يكفي مدة 45 يومًا، كوقود استراتيجي يجب بالعادة أن يتوفر في مثل هذه المحطات، حتى نحافظ على مستوى التشغيل.
وأضاف أنّه في حالات سابقة كان مخزون الوقود يغطي 30 يومًا فقط، "بالتالي أقدّر أنّ السلطة تدفع دوريًا ما بين (40-60%) بدل الفرق ما بين الإنتاج الفعلي والمتفق عليه، مشيرًا إلى أن معدّات الشركة المتوقفة تحتاج صيانة إضافية نظرًا لتوقفها، وفريق العمل في الشركة جاهز للعمل بكامل الطاقة الإنتاجية (140 ميجاواط) بحسب الاتفاق مع شركة التوزيع وسلطة الطاقة. وتابع، "بالتالي من مصلحتي أصلًا أن تعمل المحطة بكامل طاقتها حتى لا نتكبّد تكاليف صيانة عالية".
ورأى سلمان أنّ هذه الشروط لا تمثّل استقواءً على الحكومة، "فالمسؤولية على السلطة وليس على الشركة، ولو زوّدتنا الحكومة بنفط كافٍ لإنتاج 140 ميجاواط، وأنتجت فقط 100 ميجاواط مثلا، فلها أن تخصم قيمة الـ40 ميجاواط غير المنتجة، وبالتالي إذا قصّرت في واجباتي حسب الاتفاق، فبإمكان السلطة أن تحاسبني".
وأكد سلمان أنّ السلطة لا تملك حتى الآن شبكة قادرة على استيعاب أكثر من 100 ميجاواط، رغم أن الاتفاق بين الشركة والسلطة ينص على أن تقوم السلطة بمشاريع عبر منحٍ من أسبانيا والنرويج، من أجل تحضير الشبكة الناقلة للكهرباء، ونقاط وشبكة التوزيع، حتى تكون جاهزة لأخذ كمية إنتاج الطاقة الكاملة في العام 2003، على أن تكون الشركة قادرة وجاهزة على إنتاج الطاقة في نفس العام.
شركة كهرباء فلسطين تقول إن السلطة لا تملك شبكة قادرة على استيعاب أكثر من 100 ميجاواط، وشركة توزيع الكهرباء بغزة تنفي ذلك
وقال: "بالتالي فالاتفاق متوازن بمسؤوليات كل طرف، فكما على الشركة مسؤوليات فإن على السلطة والحكومة مسؤوليات".
هذه الأقوال نفاها المهندس فتحي الشيخ خليل، رئيس مجلس إدارة شركة توزيع الكهرباء في غزة، الذي أكد أن الشبكة جاهزة ويمكن أن تستوعب الطاقة الكاملة، مشيرًا إلى أنّ المحطة لا تصل لهذه القيمة في الإنتاج من الناحية الفنية.
تجدر الإشارة إلى أنّ سلطة الطاقة والموارد الطبيعية، قد صرّحت بأنها تلقت في شهر كانون الثاني/ديسمبر من عام 2016 جزءًا من المنحة المالية التركية لوقود محطة الكهرباء، بعد أن تلقت معلومات رسمية - كما قالت - حول نية الحكومة التركية إرسال شحنة وقود لتشغيل محطة كهرباء غزة، وكميتها 15 ألف طن، أي ما يعادل 15مليون لتر، إضافة للدفعة الأولى التي تلقتها من المنحة المالية القطرية، وقيمتها أربعة ملايين دولار، وذلك لحساب شراء الوقود لتشغيل محطة الكهرباء، وقد ساهمت بتشغيل المولد (التوربين) الثالث في محطة الكهرباء، علمًا أنّه سبق أن موّل الاتحاد الأوروبي شراء الوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة، عدة مرات لكنّه كان حلًا مؤقتًا وتوقف.
اقرأ/ي أيضًا:
في الضفة: رخص سياقة بالواسطة والرشوة