"تعالْ يا جهاد". لطالما سمع جهاد هذا الطلب من أفراد عائلته، ولبّاه بطاعة وحب، دون تأفف أو تذمر، علّه بإرضاء عائلته يمتن لخالقه الذي جعله مبصرًا في عائلة يُتوارث فيها فقدان البصر، وهو الذي اختاره القدر ليكون عينًا لهم على هذه الحياة، ويدهم الوحيدة التي تنحتُ من صخر الحياة قوتَ يومها كي تعيش، قبل أن يفقأ جيش الاحتلال العين ويقطع اليد، بقتل جهاد في أول أيام مسيرات العودة الكبرى.
كان جهاد زهير أبو جاموس (30 عامًا) السبيل الوحيد لتوفير أبسط مقومات الحياة لعائلة جميع أفرادها من فاقدي البصر (الأب، والأخ، وثلاث شقيقات)، ولم يمنعه ذلك من تأسيس عائلةٍ تضم بين جنباتها صوتُ الطفولة وكلمة "بابا"، علّهم يخففون عنه ضنك الحياة، حين يملأ قلبه بحبهم بعد يومٍ طويل من التعب.
الشهيد جهاد أبو جاموس كان المُبصر الوحيد بين شقيقاته، ولطالما عجّل بتلبية طلباتهم بحب ودون تذمر
أربعة أطفال، لم يبلغوا تحقيق أملهم في أن يُسرع بهم الزمن، حتى يكبروا ويُساعدوا والدهم في جلب الرزق، وتقاسم ما على كاهله من أعباء، إذ استبق جيش الاحتلال ذلك بسلب روح والدهم.
اقرأ/ي أيضًا: حكاية محمد النجار.. حتى لا يبرد في ثلاجة الموتى
فجرًا، كان يشقّ أبو جاموس يوميًا طريقه إلى رزقه، بالسيْر من بيته في منطقة بني سهيلا شرق خانيونس، وصولاً إلى بيت عائلته في بلدة خزاعة، التي تبعد عنه مسافةً ليست باليسيرة، ليُلقي على والديه وأخواته تحية الصباح، ويحمل معه دعواتهم المباركة، فيُمسك بزمام يومه مبكرًا كي لا يتسرب منه رزقه المحدود.
يستقل عربةً يجرها حمار، حتى يستقر به الحال في منطقة معبر "صوفا" شرق مدينة رفح، يجمع المواد البلاستيكية طوال النهار، ثم يحاول بيعها، متحصلاً على بضعة شواكل، يُسخرها في تلبية احتياجات أشقائه، وعلاج أمه، وتوفير أبسط احتياجات أبنائه وزوجته.
لم يدم شريان حياة أسرتي أبو جاموس طويلاً، حتى قرر الاحتلال الإسرائيلي قطعه في يوم الأرض الفلسطيني، في الثلاثين من شهر آذار/مارس الماضي، أثناء مشاركته في مسيرة العودة الكبرى، السلمية، عند الحدود الشرقية لقرية خزاعة بمدينة خانيونس، ليُباغته الاحتلال برصاصة في الرأس.
يتآكل قلب شقيقاته الكفيفات وجعًا، وهن اللواتي لم يستطعن حتى اللحظة استيعاب رحيل شقيقهن الذي كان بمثابة "المصباح العجيب" بالنسبة إليهن.
"حينما كنت أتضايق من أي شخص، أشكو إليه، فأجده يُطبطب عليّ، ويقول لي أنتِ نعمة الله لنا، وأي شخص يضايقك، فهو يُضايقني، ولطالما أنا موجود إلى جانبك فلا تقلقي. ذهب جهاد وستنهش أرواحنا الوحدة من بعد فراقه" تقول شقيقته شيماء لــ الترا فلسطين.
أما شقيقته سماح، فتستذكره قائلة: "لم يكن يملك مالاً يكفيه ليومه، إلا أنّه كان يُصّر اقتسامه معنا، يُعدّ لنا الطعام بيديه، ويشتري لنا كُل ما نطلبه، لم يتأفف يومًا من أخذنا للتنزه أو يشعر بالحرج، بل كان يُباهي بنا كل من حوله".
لم تتمنّ شقيقات أبو جاموس أن يرتّد إليهن بصرهن كما تمنين ذلك لحظة استشهاد شقيقهن، فهو الذي كان يُبصرهن الجمال، وقد فقدن تلك العين، فكيف لهن رؤية الدنيا كما كان يُريهن إياها جهاد، وفق أقوالهن.
والدة جهاد التي لم تتعافى من مرضها بعد، خرجت من المستشفى قبل يومين فقط من استشهاد نجلها بعد مكوثها أسبوعين فيه، وكأن القدر أعادها إلى بيتها، كي تروي ظمأ اشتياقها من رؤيته، وهو الذي لم يتوقف عن الغناء لها وحملها والطواف بها في أرجاء البيت، ترتجيه أن يُنزلها من يديه، وهو غير مبالٍ قائلاً: "والله إنك نوارة البيت يمّا".
كان جهاد أبو جاموس يحمل أمه ويطوف بها في أرجاء البيت قائلاً: "والله إنك نوارة البيت يما"
كلما تسّرب إلى سمعها اسم جهاد بين الحاضرين في بيت العزاء، ردّدت "الله يرضى عنك يمّا، كنت سندنا كُلنا. الله يعين قلبي ع فراقك". ثم تمزّق أصوات صغارهِ الأربعة فؤادها وهم يسألون والدتهم: "وين بابا يا ماما" فتجيبهم "راح الجنة"، وهم الذين لم يسبق لهم أن سمعوا بزيارته لها، ولم يعهدوا غيابه على هذا النحو.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟
لم يتخلَّف جهاد منذ فترة طويلة عن المشاركة في الفعاليات التي تُنظم عند السياج الفاصل كل يوم جمعة، حتى قرر في جمعته الأخيرة أن يأخذ زوجته وأبناءه معه، استجابة لنداءات المشاركة في مسيرات العودة، فحاول توفير مكانٍ آمن لهم عند الخيام المنصوبة، وتولى مهمة الاقتراب أمامًا باتجاه الحدود مع أصدقائه، ثم قال لهم مازحًا: "والله الشاطر فينا اللي بيوخد مرته وبستشهدوا مع بعض" كما تروي زوجته غدير لـ الترا فلسطين.
يبدو أنّ شعورًا بالرحيل وكز قلب جهاد قبل لحظات من إصابته برصاص الاحتلال، فأراد العودة إلى الخيمة باحثًا عن زوجته التي لم تعلمْ ما الذي كان يريدها أن تعرفه؛ ولم يُسعفه الوقت ليُعلمها به، فجيء به قبل أن يصلها محمولاً على الأكتاف.
كان جهاد عمودًا لحياة عائلته، كسره الاحتلال في يوم الأرض. رحل الرجل الذي تولى إنجاز وظائف عائلته من صيانة، وشراء، وإعالة، وأحيانًا كثيرة الطبخ، وقد أحببن شقيقاته الطعام من يديه. رحل مُسدلاً ستار الظلمة على عيون عائلته، بعد أن كان نورهم الذي يُبصرون به.
اقرأ/ي أيضًا:
مسيرات العودة: مشاهد لا تُنسى.. صور وفيديو