18-أكتوبر-2018

جثم الخوف ثقيلاً على قلب الخالة الهش كأرغفة الخبز الساخن الذي كانت تخبزه عندما أخبرها ابنها أن إلغاء رحلة حجها واجبٌ انساني. لم يرأف الابن بقلب أمه رغم أنه يعلم أن قلبها أُمّيٌ عندما يتعلق الأمر بحب الله.

جلس مقابلها وحدثها عن هذا الواجب الإنساني بكلماته الكبيرة التي لم تفهمها، حائرةً كانت في واجبها الإنساني تجاه العالم، لم يحدثها أحدٌ من قبل عن هذا الواجب، أخبرها ابنها أن من ضمن واجبها أيضًا أن تقنع جاراتها بأن يلغين هن أيضًا رحلاتهن إلى مكة ليس لهذا العام فقط بل إلى الأبد. تفتَّتَ رغيف قلبها واحترق، وهي التي لم تُرد شيئًا سوى أن تزور قبر النبي!

الناس تبكي على الضحايا، تصلي من أجلهم ولكنها لا تتدخل لإنقاذهم

لم تفهم الخالة كيف أن ذهابها للحج سيزيد خراب اليمن وموتاه. ارتبك عقلها أمام فكرة أن هناك رؤوسًا تُقطع، وأن دنانير حجها قد تكون جزءًا من هذه الجريمة. بدت كلمات ابنها قاسية، هو الذي قال ما قاله وهو غاضبٌ ربما من خبر عاجل سمعه. اتضحت الفجوة بين عالمهما في تلك اللحظة وبدت على حقيقتها أكثر في ذلك المشهد تحديدًا.

اقرأ/ي أيضًا: هكذا يُستخدم الأشخاص الأقل حظًا

ما العلاقة بين حجها وبين نشرة الأخبار التي راح ابنها يرددها بغضب أمامها؟ العلاقة الوحيدة التي تفهمها هي أن ذهابها للحج هو تخليصٌ للعالم من شرور إبليس الذي سترجمه في مكة على أمل تقليص قواه الخبيثة وتخفيف لعنته وسيطرته ليس عليها فقط، بل على العالم بأسره. هذا هو الواجب الإنساني الذي تعرفه جيدًا وتستطيع تقديمه على خير وجه: الدعاء، الصلاة، العبادة. ولكنها الآن تشعر أنها تحمل أعباء كلمات لا تفهمها.

الناس تبكي على الضحايا، تصلي من أجلهم ولكنها لا تتدخل لإنقاذهم، بالأحرى هي لا تعتقد أن بإمكانها إنقاذ أحدٍ، وأن التدخل الوحيد الذي يمكنها القيام به هو أن تكون وسيطًا بين المُعذبين في الأرض وبين الله من خلال الدعاء الصلاة العبادة تمامًا مثلما تفعل الخالة.

هل تقترب العبادة هنا من أن تكون الغطاء الخفيف الذي نداري به تقصيرًا اخلاقيًا كبيرًا؟ أعني أن بإمكان حركاتها المنتظمة وآياتها المتكررة أن تشيل عن ظهورنا العبء وتشعرنا بالرضا عن تقديم واجبنا تجاه الآخرين؟  بل ربما الموضوع هو ضرب عصفورين بحجر واحد، فالعبادة خلاصٌ فردي أيضًا يضمن الإنسان من خلاله نعيمًا أبديًا. ولكن ماذا يحصل عندما يخبرك أحدهم أن هذا الحجر لم يعد بإمكانه صيد العصفورين معًا بل العكس تمامًا، حجر العبادة هذا قد يُبقي لك على خلاصك الفردي - وفقًا لما تعتقد- ولكنه يقتل الآخرين الذين قلت أنك رميت الحجر من أجلهم بالأساس؟ ماذا ستفعل وقتها؟

هنا يحدث استخدامٌ مخيفٌ للروح لقتل العقل، الروح المعتادة على خطوات محددة تسيرها نحو الله، والمتمسكة بوصفات إيمانية غير قابلة لنقاش العقل الذي قد يواجهها بأسئلة تتعارض مع منطقة راحتها، فتتوقف عن التعامل معه، وتتجاهل أسئلته لتحظى براحتها المعتادة. وهنا أيضًا تنتصر الأنا التي تعتقد أن القيام بمراسم الحج وحركاته يضمن لها صفحة بيضاء عند الله، متجاوزةً كل التساؤلات عن أين يذهب ثمن الصفحة البيضاء هذه؟

تعقيدات العالم العربي في السنوات الأخيرة زادته وضوحًا على نحو غريب وغير متوقع. الثورات العربية وما جاء معها من معادلات التحالف والعداء المعقدة كشفت لنا وجوهًا لم نألفها لرجال السياسية والدين، للأصدقاء، لزملاء العمل ولأنفسنا أيضًا. فالمواقف السياسية للنظام السعودي مثلاً مكنت الكثيرين من تجميع خيوط السياسة والدين والمال معًا والخروج بنتائج قد تمنعهم من الحج مثلاً، أو من إعادة التفكير بالأمر، أو التساؤل عن قيمة الخلاص الفردي المنشود في العالم الآخر؛ عندما يكون الثمن حياة شعوبٍ بأكملها؟ والبعض متورطٌ سياسيًا دون أن يعلم في دعم نظام يلعنه يوميًا لأنه لا يرى الرابط بين الأمرين.


اقرأ/ي أيضًا:

قصص قصيرة لتقوية عضلة القلب

انتبه أمامك ذكريات إسرائيلية تجرح

التحديق بالموت