29-ديسمبر-2017

استطاعت المؤسسة الدينية اليهودية تاريخياً إحداث فصل صارم بما يتعلّق بالتاريخ المقدّس، تاريخ الجماعة اليهودية، كحالة انتظار خارج التاريح لحين عودة "المشيّاح – المسيح المنتظر" وإقامة مملكة السّماء في الأرض طوال فترة "المنفى اليهودي" في أوروبا.

وكان صراع الحركة الصهيونية الأوّل مع المؤسسة الدينية اليهودية؛ التي تهدد الصهيونية وضعها الأقلّياتي المؤسساتي الديني بأكمله، من خلال تقويضها لهيمنتها كطائفة مقدّسة لا ترى الخلاص في التاريخ، بل تراه حدثاً إعجازياً يقع خارج التاريخ وتُحدِثهُ الألوهيّة من خلال حلول "المشيّاح – المسيح المنتظر"، في الأرض. هكذا تكون اليهودية، حالة انتظار في المنفى في انتظار الحدث التاريخ المقدّس، وليس حالة خلاص، ولا تكون العودة من خلال دولة علمانية قوميّة تقوم على الأمّة بمفهوم التاريخ الدينوي الأوروبي، بل إلى القدس السماويّة لا الأرض، وإلى مملكة السّماء لا دولة علمانية، كما يبيّن عزمي بشارة في مقالة مطوّلة نشرت في مجلة الكرمل بعنوان: مئة عام على الصهيونية، من جدلية الوجود إلى جدلية الجوهر.

كان صراع الحركة الصهيونية الأوّل مع المؤسسة الدينية اليهودية؛ التي تهدد الصهيونية وضعها الأقلّياتي المؤسساتي الديني بأكمله

أما الصّراع الآخر، فيحدث بين فكرتيّ الخلاص في داخل الحركة الصهيونية نفسها. الفكرتان تبحثان عن الخلاص في التاريخ، على العكس من اليهودية التقليدية التي تنتظر الخلاص خارج التاريخ كما تبيّن سابقاً. الفكرة الأولى، تُمَوضِعُ خلاص اليهود في خلاص البشرية، كما بكلمات ماركس: "يخلصُ اليهود عندما تتخلّص البشريّة من يهوديّتها". والفكرة الثانية تقول بوجوب البحث عن خلاص اليهود أنفسهم من خلال تخلُّصهم من حالة المنفى اليهودي، القائمة بفعلٍ مباشر من المؤسسة الدينية اليهودية ووضع اليهود في العالم. كلا الفكرتين، بحسب بشارة، تصوغان برنامجاً عقلانياً بأدواتٍ تنظيمية وعقلانية، ولكن كلتاهما تحملان في داخلهما بذور التحوّل إلى دين. فواحدة تخلطُ أحكام العقل والأخلاق والعلم واليوتوبيا في نظرية واحدة مادّية تاريخية، والأخرى تخلط بين الطائفة الدينية والأمة الحديثة.

اقرأ/ي أيضاً: يهود الروح: الاستعمار الأمريكي والأسطورة التوراتية

بهذا المعنى، استطاعت الصهيونية توظيف مفهوم الخلاص كمرادف لمفهوم الاستعمار وداعم له في فلسطين. فلم تكن الأفكار الرؤيوية المسيحانية، مسألة أدبيّة أو فنّية وحسب، بل كانت أيضاً محرّكاً لأفكار دينية صهيونية سارت جنباً إلى جنب مع التصوّرات الصهيونية العلمانية عن الاستعمار في فلسطين. وقد تمّ استخدام مفهوم الخلاص اليهودي، كعنصر أساسي في الدعاية الصهيونية. فقد رأت بعض التيارات القومية الصهيونية، أن إسرائيل تشكّل بذاتها تحقيقاً لرؤى الربّ وإرادته، وقد حاول المنظّرون الأوائل لهذا التيار، وأبرزهم الحاخام إبراهام إسحاق هكوكين كوك، إضفاء صبعة دينية وروحية يهودية على الصهيونية وتعزيز الشعور الديني في الحركة وأهميّة الاستيطان في فلسطين.

بهذه الصيغة، تتم صهينة الدين وتديين الصهيونية، ويتحوّل الاستيطان بنظر بعض المنظّرين الصهاينة، إلى عملية خلاص أساسية في الطريق إلى تحقّق الخلاص الأعم للشعب اليهودي. ويصبح المسيح المنتظر خارج التاريخ البشري ونفياً له، هو جدلية التاريخ نفسها، في عملية تتم دون علم منفّذيها بحسب بشارة.

الصهاينة، إذاً، يقومون بعملية الخلاص دون أن يدركوا ذلك، فهم، بكلمات بشارة: "متديّنون بالقوة، وما على الصهيونية إلا أن تعي ذاتها لتكتشف أنّها الدين بذاته، ولتصبح صهيونية دينية". والجدلية التي يبيّنها بشارة والقائمة في العلاقة ما بين الصهيونية واليهودية، تشتمل على أزمة وجودية خاصّة بأولئك الذين اكتشفوا أنّهم كانوا جزءاً من عملية تاريخانية لتحقيق "المقدّس التاريخي"، وقد كانوا يعتقدون أنّهم يؤسّسون دولة علمانية تحلّ المشكلة اليهودية على أنّها مشكلة قومية وحسب.

الجدلية القائمة في العلاقة بين الصهيونية واليهودية، تشتمل على أزمة وجودية خاصة بأولئك الذين اكتشفوا أنهم كانوا جزءاً من عملية تاريخانية لتحقيق "المقدس التاريخي"

فالصهيونية من حيثُ أيديولوجيّتها الفكرية والقومية، القائمة على الأمّة اليهودية، كأمّة عرقيّة دينية، لا يمكن لها أن تكون إلا من خلال نفي نقيضها الوجودي؛ ومن خلال اختلاقه في آن. حتى لو لم يكن موجوداً حقاً. فقد حقّقت الحركة الصهيونية من خلال صهينة الدين وتديين الصهيونية، عناصر الأمّة الرومانسيّة الأوروبيّة التقليدية؛ بعث الرّوح في شعب خامل مشتت، بعثه للحياة على هيئة الأمّة اليهودية في الدولة اليهودية.

اقرأ/ي أيضاً: هل بدأ العالم من القدس؟

ومن هنا كان الاستعمار الصهيوني مختلفاً ومتمايزاً عن إرث الاستعمار الأوروبي؛ فلم يكن استعماراً للأرض وحسب، بل أعاد الأرض من منفاها التاريخي بالقوّة من خلال إعادة السيادة اليهودية للأرض. كذلك لم يكن استعماراً يسعى إلى إقامة مملكة السماء على الأرض في مملكة الإنسان، بل كان استعماراً ينشدُ الخلاص عن طريق تمهيد الأرض للقائها التاريخي المقدّس بالسّماء وقدوم المشيّاح – من خلال إعادة تجميع يهود الأرض في أرض الميعاد. وبكلمات مختصرة: كان استعماراً قصدياً رؤيوياً يقوم على رغبة جماعة دينية بتسريع الخلاص، وإنهاء التاريخ الدنيوي، وبدء التاريخ المقدّس عن طريق مملكة الربّ بالمعنى الحرفي للكلمة.

القدس شرطاً لعودة المسيح

في هذا الإطار، يشكّل الاحتلال للأراضي الفلسطيني المحتلّة في عام 67 موضوعاً أساسياً من موضوعات السجال الصهيوني الديني والصهيوني العلماني. إذ يشكّل هذا الاحتلال والسيادة الصهيونية اليهودية على أراضي عام 67 وكامل فلسطين المحتلّة، جوهر الاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين. ليس الاحتلال عملية استيطانية أو أمنية وحسب، بل هو أنقى عمليّات الاستعمار الصهيوني في فلسطين وجوهر هذا الاستعمار؛ إذ عندما يكون مدفوعاً بأسباب دينية، يرى في الضفّة الغربية، وفي القدس تحديداً، مركزاً دينياً وروحياً هاماً بالنسبة ليهود العالم، وخطوة لا يمكن لمشروع الخلاص الصهيوني الديني أن يكتمل من دونها. 

ليس الاحتلال عملية استيطانية أو أمنية وحسب، بل هو أنقى عمليّات الاستعمار الصهيوني في فلسطين وجوهر هذا الاستعمار

القدس تشكّل عصبَ هذا المشروع وأهمُّ أعمدته لدى التيار الصهيوني الدّيني، وتشكّل السيادة عليها كاملة، واعتبارها عاصمة للشعب اليهودي ودولة إسرائيل، مسألة في غاية الحساسيّة بالنّسبة للتيار الصهيوني الديني. والقدسُ هنا، لا تعني اليهود وحسب، إذ، وكما ورد في تقرير سابق لـ"الترا فلسطين" بعنوان: "كيف دفع الإنجليكانيون ترامب لإعلان القدس عاصمة إسرائيل؟"، يتّضح لنا أن هذه المعتقدات عن القدس وأرض إسرائيل التوراتيّة، ليست حكراً على اليهود وحسب، بل إن البعض يذهب للقول، إنّه لو لم تكن هناك حركة صهيونية لتمّ خلقُها لتحقيق التصوّرات الدينية الخلاصيّة لدى بعض التيّارات الدينية المسيحيّة البروتستانتية والإنجليكانيّة وغيرها من المذاهب التي ترى في إسرائيل: "طموح لاهوتي ناجم عن الاعتقاد بضرورة التعجيل بعودة يسوع إلى الأرض المقدّسة"، وعقيدتهم تجدُ أنّه من غير الممكن للمسيح الظهور من جديد إلا بعودة اليهود إلى أرضهم، أرض إسرائيل، وتجمّعهم في دولة واحدة، و"الدفع إلى حرب يأجوج ومأجوج في مواجهة دولة الشرّ، وبعد نهاية تلك الحرب سيظهر المسيح يسوع ويخلّص العالم".

وبكلمات أخرى، إن عودة اليهود إلى فلسطين – أرض إسرائيل – ضروريّة للتيارات المسيحيّة الخلاصيّة كمرحلة من مراحل النّهاية التاريخية وإقامة مملكة السماء في الأرض. وتشكّل القدسُ، العصبَ الأكثر حساسيّة والمرتكزَ الأكثر أهميّة في التصوّرات اليهودية الدينية، كما هي في التصوّرات المسيحيّة الصهيونية.


اقرأ/ي أيضاً:  

القدس من خلال 4 مذكرات شخصية

بهذه البساطة: إنها أرضنا

مئة عام من عزلة اللغة في مواجهة وعد اللغة البيضاء