02-نوفمبر-2017

"هل أكون قائدًا وجبانًا!" قال عبد الرحيم الحج محمد، عندما اقترح عليه أهالي صانور توفير مخبأ له في مغارة قرب القرية، بعد أن علم الجيش البريطاني بوجود عبد الرحيم، القائد العام لثورة فلسطين الكبرى (1936 – 1936) في صانور. فضّل الحج محمد المواجهة على الاختباء، وعند أبواب قلعة صانور ارتقى شهيدًا إثر معركة غير متكافئة، ليكون استشهاده في شهر آذار/1939، آخر فصول النحس والأحداث الدامية التي مرّت بقلعة صانور.

يسمّونها "القلعة المنحوسة"، وهي تتوسط قرية صانور الواقعة جنوب جنين، والتي تشرف على ثالث أكبر مروج فلسطين، إذ تبلغ مساحته نحو 15000 دونم، هذا إضافة إلى أنها – قرية صانور - تقع على الطريق القديم الذي يربط الناصرة والجليل بجبل نابلس والقدس.

"القلعة المنحوسة" تتوسط صانور، أطلق عليها الوالي العثماني عبد الله باشا هذا الاسم، بسبب كثرة الحروب والقتلى عند أبوابها

والقلعة المنحوسة، أطلق هذا الاسم عليها هادمها عبد الله باشا، والي صيدا والقدس وجبل نابلس والخليل سنة 1830، بسبب تكرر الهجمات عليها، والمعارك عند أبوابها، وكثرة القتلى نتيجة ذلك، ويُعتقد أن الصليبيين هم أول من بناها إبان احتلالهم لنابلس.

اقرأ/ي أيضًا: معركة الدريجات.. قاتلوا حتى نفذت ذخيرتهم

وارتبطت قلعة صانور "المنحوسة" بدار جرّار، العائلة التي حَطت في جبل نابلس؛ ونزلت قرى جنين، وكان أصل قدومها بعد ثورة جبل نابلس على العثمانيين سنة 1657.

وشهدت قلعة صانور عدة حروب خلال الفترة الممتدة بين 1730 إلى 1860، أسفرت عن اندحار المهاجمين أكثر من مرة، ونجح أهلها كثيرًا في الصمود داخلها رغم قصف المدافع، والألغام المزروعة تحت الأسوار، كما كانت القلعة رحى صراع ضروس في الحروب الأهلية في جبل نابلس وصراعات قبائل القيس واليمن.

من أشهر ما تعرضت له القلعة عبر تاريخها المذكور في المراجع التاريخية:

- حملة الشيخ ظاهر العمر، حاكم الجليل وعكا وطبريا، عندما سعى إلى توسيع نفوذه في فلسطين، متمردًا على الدولة العثمانية، ومسيطرًا على مناطق نفوذ الولاة النابلسيين في الناصرة، والسهل الساحلي، ومرج ابن عامر، فقام بطرد ولاة الشيخ إبراهيم جرار، مُتسلم جبل نابلس من الطيرة والطنطورة.

إثر ذلك، وتحديدًا في عام 1735، وقعت معركة عرفت باسم معركة الروحة، قرب قرية المنسي جنوب شرق حيفا، هُزمت فيها جيوش النابلسيين، وقُتل من قادتهم الشيخ إبراهيم جرار، والشيخ ابن ماضي، وبعد ذلك لاحقهم ظاهر العمر بعسكره إلى صانور، فحاصر قلعتها مدة من الزمن، إلى أن عجز عن اقتحامها فتركها ورجع إلى عكا.

وحاول ظاهر العمر اقتحام القلعة عدة مرات بين عامي 1735 – 1770، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، حتى عام 1971، عندما حاصر القلعة سنة كاملة، واستطاع في نهاية المطاف أن يعقد اتفاقًا مع زعمائها بالسماح له بالمرور إلى نابلس واحتلالها، وذلك بسبب خلافات وقعت في نابلس على الزعامة.

- حصار والي الشام عثمان باشا الصادق الكرجي. وكان ذلك في عام 1764، خلال عهد الشيخ محمد جرار،  محاولاً الانتقام من وقوف مشيخة جبل نابلس وآل جرار إلى جانب الوالي السابق للشام محمد باشا العظم، إلا أن محاولة الصادق الكرجي انتهت إلى الفشل أيضًا، فعاد أدراجه يجر أذيال الخيبة.

- حملات أحمد باشا الجزار، وقد تكررت أكثر من مرة وانتهت دائمًا بالفشل. وأشهرها شنّها الجزار في سنوات 1782 /1790/ 1794، وذلك في عهد شيخ القلعة الشيخ يوسف الجرار، الملقب بـ"سلطان البر". 

حاول أحمد باشا الجزار احتلال قلعة صانور "المنحوسة" مرات عديدة، لكنه مات دونها، حتى قيل: "مات وهو يرنو لاحتلال القلعة"

وفي سنة 1802، أعاد أحمد باشا الجزار حصار قلعة صانور محاولاً اقتحامها وهدم أسوارها، بسبب دعم الشيخ يوسف الجرار ثورة أبو المرق في يافا ضد الجزار، وقد استمر الحصار حتى سنة 1803، وانتهى بهزيمة مُرّة خسر خلالها الجزار كثيرًا من جنوده، قبل أن يفارق الحياة بعد سنة دون أن ينجح في احتلال القلعة، حتى قيل عنه: "مات وهو يرنو لاحتلال القلعة".

اقرأ/ي أيضًا: سجن الفارعة.. هل تنهي التحديثات عذابات عقود؟

ومن طريف حصاره للقلعة أنه حاول بناء برج أمامها أكثر من مرة، وكان في ساعة الصباح يُباغته عسكر القلعة فيقتلون من جنوده ويهدمون البُرج، ويأخذون حجارته ومعاول البناء، وما يجدوه أمامهم.

- عبد الله باشا وحرب صانور، بين عامي 1829-1830. أطلق عددٌ من المؤرخين على حوادث هذه السنة اسم حرب صانور، وذلك لاتساع ساحات القتال فيها وتعدد الأطراف المشاركة، وطول مدّة الحرب، وما نتج عنها من قتل وتخريب وتحولات سياسية بدأت بتقلص نفوذ آل جرار وبدء الصراعات المحلية في جبل نابلس.

وهذه الحرب بدأت حين رفض الشيخ عبد الله جرار تسليم القلعة لوالي صيدا والقدس وجبل نابلس والخليل عبد الله باشا، فأعلن الأخير الحرب على القلعة وفرض عليها مع حلفائه حصارًا شديدًا، ودكتها مدافعهم من كُل جانب، إلا أنهم فشلوا في اقتحامها لفزعة أهالي جبل نابلس لقلعة صانور.

واستنجد الوالي عبد الله باشا بالأمير بشر الشهابي في حربه على صانور، وقال: "إن لم آخذ القلعة سأقتل نفسي". واستمرت الحروب في القرى المحيطة بالقلعة شهورًا دون توقف.

ولما اشتد الحصار على القلعة، اشتركت النساء في الحرب، وصارت تُشعل اللحف والملابس بعد غمسها بالزيت وتلقيها خارج الأسوار، كي يتمكن الرجال من إصابة جيش الوالي.

 وبعد حصار استمر ثلاثة أشهر، رضخت القلعة واستسلمت، وخرج آل جرار والمُحاصرون فيها والمدافعون عنها، فأمر عبد الله باشا بهدم القلعة حتى الأساس، وخرق مغائرها وهدم آبارها، وقام بإلباس مدافعه "الجوخ الأحمر" فخرًا بنصره العظيم. وكان قد وصفها في كتبه المرسلة للولاة بـ"القلعة المنحوسة".

هدم عبد الله باشا قلعة صانور، لكن أهلها أعادوا بناءها خلال سنوات، قبل أن يهدمها إبراهيم باشا، ثم أعاد أهلها بناءها من جديد

- حملة إبراهيم باشا، وجاءت هذه الحملة عام 1840، أي بعد 10 سنوات من حرب صانور وتدمير القلعة من قبل جيش عبد الله باشا، وقد كانت السنوات العشر كافية لإعادة بناء القلعة المدمرة، قبل أن يدكّها إبراهيم باشا ويدمرها من جديد.

وكانت حملة إبراهيم باشا نتيجة ثورة مشايخ وزعماء نابلس على حكمه بسبب التعيينات الجديدة، فكان رده بأن لاحقهم واعتقلهم وأعدمهم، وكان لصانور نصيب من ذلك، فهدُمت قلعتها مجددًا، وبقيت كذلك حتى إعادة بنائها مرة أخرى عام 1847.

وظلت قلعة صانور يلاحقها النحس، ومسرحًا للصراع على النفوذ في جبل نابلس، حتى الفترة المتأخرة من العهد العثماني، وإن سلمت القلعة من الهدم والتخريب؛ فإنها لم تسلم من الإسهام في الاحتراب والصراعات وبسط النفوذ في جبل لم يكل يومًا عن الحِراب طوال تاريخه.


اقرأ/ي أيضًا:

مار سابا.. قصة دير محرم على النساء

اغتيال عند باب الأسباط

دير كريزمان.. البداية من نبيذ الصلاة