25-أكتوبر-2018

بعد مضي 134 عامًا على افتتاح القنصلية الأمريكية في القدس، ثم بقائها منفصلة تمامًا عن السفارة الأمريكية في "تل أبيب"، حيث ظلت تتبع وزارة الخارجية الأميركية، تأتي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إغلاقها ودمجها مع سفارتها في مدينة القدس بعد نقلها من "تل أبيب"، لتشكل بذلك نقلة نوعية وخطيرة جدًا في مشروع الإدارة الأميركية اليمينية لتصفية القضية الفلسطينية، وفق رؤية اليمين اليهودي الديني المؤمن بما يسمى "إسرائيل الكبرى"، وينكر وجود الشعب الفلسطيني.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي جون تايلر قد افتتحت القنصلية الأميركية في العام 1844، حين كان عدد اليهود في فلسطين لا يذكر، لتجسيد وتثبيت العلاقات الأمريكية الفلسطينية، ولتشكل بذلك التمثيل الأميركي  المستقل في فلسطين، والذي عكس اعترافًا سياسيًا صريحًا بفلسطين وشعبها .

القنصلية الأمريكية في القدس افتُتحت عام 1844 لتثبيت العلاقات الأمريكية الفلسطينية حين كان عدد اليهود في فلسطين لا يُذكر

وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو قلل من خطورة قراره بإغلاق القنصلية الأميركية ودمجها مع السفارة، وإعادة القنصل لواشنطن، علمًا أن القنصلية كانت مخصصة للتعامل مع الفلسطينيين. كما ادعى أن مستقبل القدس والضفة الغربية متروك لما أسماها المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. ورغم هذه التصريحات، إلا أن القرار يعتبر الأخطر في مسلسل قرارات  الإدارة  الحالية، فهو يعني موافقة أمريكية على إلغاء البعد السياسي والدبلوماسي المستقل للعلاقة مع الشعب الفلسطيني ومؤسساته السياسية والخدماتية.

وخطورة القرار تكمن أيضًا في إلحاق القنصلية للسفير الأمريكي في إسرائيل دافيد فريدمان، الذي يقف خلف القرارات الأميركية العدائية ضد القضية الفلسطينية، وينتمي للتيار الديني القومي اليهودي المؤمن بما يسمى أرض إسرائيل الكبرى، ويقيم في مستوطنة "بيت إيل" المقامة على أراضي رام الله، ويعد من أكبر داعمي المستوطنات  ماليًا  وسياسيًا، ولا يعتبر  الضفة منطقة محتلة، إذ وصفها بأنها "مناطق محتلة مزعومة".

قرار إغلاق القنصلية ودمجها في السفارة الأميركية، وتحويلها إلى دائرة صغيرة  تتبع السفير الأمريكي المتطرف، يحمل معانٍ سياسية كبيرة، تعكس رؤية يمينية دينية يهودية متطرفة للمناطق الفلسطينية. كما يشكل القرار رفضًا أمريكيًا لأي حقوق سياسية جماعية للشعب الفلسطيني، وإمعانًا في تبنى رؤية اليمين الديني اليهودي الذي يرفض إقامة أي كيان فلسطيني مستقل على الأراضي الفلسطينية، لا بل إنه يشكل اعترافًا أميركيًا بضم الأراضي الفلسطينية المحتلة لإسرائيل، وضم سكانها أيضًا والتعامل معهم من خلال السفارة بدرجة متدنية من التعامل؛ تنسجم مع الدائرة الصغيرة التي تم استحداثها لهم ضمن السفارة، لتشكل الولايات المتحدة من خلال قرارها غطاءً داعمًا لتحول إسرائيل إلى دولة احتلال استعماري عنصري تمارس التمييز العنصري من خلال السيطرة على كل الجغرافيا الفلسطينية، مع فرض قانون عنصري على المواطنين الفلسطينيين، خلافًا للقانون المفروض على اليهود، وذلك انسجامًا وتماشيًا مع قانون القومية اليهودية الذي تم تمريره في الكنيست الإسرائيلي قبل شهور قليلة، والذي حصر الحقوق القومية السياسية الجماعية لليهود فقط في كل المنطقة الواقعة ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهي المنطقة التي أطلق عليها تسمية "ارض إسرائيل ". وبذلك تكون الولايات المتحدة قد تبنت قانون القومية اليهودية وحرمان الشعب الفلسطيني من الحقوق السياسية، وحتى المدنية، وألغت  القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية .

قنصل أمريكي سابق في القدس: واشنطن أصبحت تنظر لعلاقاتها مع الفلسطينيين كفرع صغير في علاقاتها مع إسرائيل

 الباحث الأكاديمي الأمريكي جيك والاس - الذي شغل منصب القنصل الأميركي العام في القدس سابقًا - كان قد نشر في معهد كارنغي للسلام تحليلاً عن القرار، إذ اعتبره بمثابة أقوى ضربة تتعرض لها مساعي الولايات المتحدة لتهدئة الأوضاع في المنطقة، ورأى أن الولايات المتحدة أصبحت تنظر لعلاقاتها مع الفلسطينيين كفرع صغير في علاقاتها مع إسرائيل، بعكس العلاقة الدبلوماسية والسياسية بين الولايات المتحدة والفلسطينيين الثنائية وغير المرتبطة نهائيًا بعلاقة أمريكا مع إسرائيل.

ورأى والاس أن القرار سيُلحق ضررًا كبيرًا بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، مضيفًا أنه جاء امتدادًا للقرارات السابقة التي أصدرتها إدارة الرئيس ترامب، من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل  سفارتها من "تل أبيب" للقدس، ووقف تمويل وكالة الغوث والعمل على توطين اللاجئين الفلسطينيين، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وهي في مجملها تعتبر رفضًا أمريكيًا ليس فقط لحل الدولتين الوهمي، بل أيضًا لإقامة أي كيان فلسطين، حتى أن بقاء السلطة الفلسطينية الحالية ككيان خدماتي قائم  لم يعد مضمونًا بعد القرار الأميركي، وبذلك يصبح من العبث الحديث  عن عملية سلام أو دور أمريكي .


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | نقل السفارة.. ماذا فعلت إسرائيل؟ وماذا فعلنا؟

نقل السفارة.. الكل يتفرج على عرض ترامب

ترامب.. وأخيرًا اللعبة القذرة دون وجه أنيق