27-أغسطس-2024
لوحة للفنان سليمان منصور

لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور

موتٌ بلا عافية، أو حياةٌ لا تتجاوز النبض، هذا ما أراده الاحتلال لكلّ من تبقى على قيد التنفس والأمل في غزة. قتلوا الإنسانية ثم رسموا لها "كتالوج الحياة"، ضربوا أجسادنا بسوط الخوار بعدما حجبوا عن أمعائنا الامتلاء، في الوقت الذي فرضوا فيه الخواء على المعدة، ثم تركوا انهيارنا لـ "منيو المجاعة"، حددوا لنا فيه أصنافًا من السموم، وحاصرونا في طريقة الطهي، بينما طوّقوا صدورنا بنار القهر وحطب المعاناة في نطاق هندسة التجويع.

لقد كبّلوا الدقيق، ونصبوا طريقًا للموت تحت وطأة سدِّ الرمق لإضرام حربٍ أخرى، كما رصفوا جسرًا للفساد وأهله ضمن سياستهم الملعونة، حتى بات الخبز حلم العفيف وأنين البراءة الجائعة للعيش كما تعرف الطفولة.

موتٌ بلا عافية، أو حياةٌ لا تتجاوز النبض، هذا ما أراده الاحتلال لكلّ من تبقى على قيد التنفس والأمل في غزة 

وفي فاتحة الجوع قرأ أهل القطاع خاتمة سورة قريش على ما تبقى من مخزون الأرز ابتغاء البركة طوال فترة الاستهلاك، حتى نفذ وغابت معه فرحة الغذاء الأوحد بعد نهار من التأخير والانتظار، ثمّ وما إن حاول أهالي القطاع ابتكار أشباه الوجبات من شُحِّ المتوفّر، منحت قوات الاحتلال المساحة المحفوفة بالحرية لتُجّار الدم والفساد وأخلوا سبل الاستغلال من رائحة البارود، وكُلّما ظهر بديل انقرض، أو تجاوز ثمنه ارتفاع حرارة خط الاستواء، حتى اضطر الغزي  لأكل حشائش البراري، وعجن أعلاف الدواب، وما أن بدأت الأطفال تموت جوعًا على مرأى العالم الأبكم، وأمام عجز دولي عن تحريك قوافل المساعدات، حتى طال هذا الشلل بوابة أم الدنيا بمعابرها، استغل دعاة الإنسانية الظروف للتحليق  في سماء غزة عبر طائرات محملة بكسرة المساعدات الإنسانية ومبطّنة بطرق الإهانة كي تُلقي بمظلات الجبن والخيبة بهيئة مذلة تحت ذريعة الإغاثة، حتى جعلت جياع أحياء مدينة العزة يلهثون خلف القوت كلما ألقت الطائرات 6 أو 7 مظلات لا تكفي لسد حاجة (20) عائلة من الحي الواحد، وذلك بعدما تجوب سماء أحياء عدة لإيهام الناس بإمكانية الحصول على مظروف لا يحتوي إلا وجبات غريبة وأخرى مليئة بسم المواد الحافظة.

وكلّما حلّقت مظلة ركض الناس من حي لآخر علّهم ينجحون في سد جوع أطفالهم بالفوز بوجبة واحدة لا تسمن ولا تغني، والكثير منهم كان يعود مُحمّلًا بمزيد من الإرهاق والخذلان فوق الحسرة من الرصد وانهيار العافية من ركض الجسد بلا طاقة.

أما عن الصورة الأبشع فهي وقوع المظلات على رؤوس المارة على قوارع الطريق، وتحطيم فتات الإغاثة لبقايا المنازل والأماكن البديلة لتقتل من فيها أو تصيبهم، أمّا إن وقعت على سطح أحد المنازل، فيتكاثر الجمع على بوابته، وفي بعض الأحيان كان يدفعهم الجوع لتجاوزها أملًا في الحصول على "علبة فول أو ظرف من المعكرونة"، وكثيرًا ما تقع المشاجرة بين كل تلك المحاولات، وكل مشاجرة هي ردة فعل مدروسة لطائر ادّعى الخيرية على جناح الشر والفساد كما جمّل الإجرام.

ثم إنه لا يمكنني أن أُخفي كرهي لتلك الطائرات، وقد بدت أذرع تجسس مكشوفة تحلّق على ارتفاعات منخفضة جدًا تجوب الأرض عبر السماء، تتحرك بهيئة الراصد "بطريقة رقابية" تحت مسوّغ المساعدة، حتى بات طيارها متخذًا من أجواء المدينة السوداء مدارًا ومطارًا، له فيه استحقاق التحليق والهبوط متى وكيفما شاء، وذلك بعد ما حفظت معدة الغزّي الخبيزة، وصارت المعكرونة أكبر "طهمة".

وما أن اقتحم الدقيق الحلم، وصار واقعًا بعدما دفع ثمنه الكثير من الآباء الذين دفعهم حُبُّ الأبناء وحلم الجائع منهم فوق الحسرة للبحث عن القوت، دفعت الولايات المتحدة الأميركية بالسم الإجباري المغلف بالاختيار "المعلبات" لتحاصر الخبز بمرافقته، فتمنع إمكانية التناول والتغميس أمام جوع الناس وغياب الاختيارات على موائد الطعام إلّا من ذاك السم، حتى بات المرض حاضرًا في لقيماتهم، وتسمم أهل المدينة، وانتشر التهاب الكبد الوبائي، لاسيما وأنّ الكثير من "المعلبات" فسدت بسبب طول وقت الاحتجاز، وارتفاع الحرارة، عدا عن تسلل البضاعة التالفة تحت مسمى الإغاثة وتسرّب المغشوش لأسواق الاحتكار على ظهر قاصدي الفحش في الغناء، ليضطر أهل البلاد أكلها في ظل انقطاع البدائل وانعدام المكملات، أما عن النتيجة من كل هذا فوق معاناة الفقد والشتات فهي موات القلب وهو على قيد النفس.