29-أكتوبر-2017

هذه المادة، ليست مرثية لوضع مزري ومتردّي لسوق الكتب في فلسطين، كما أنّها ليست مادة نابعة عن صدمة ما، نتيجة التعرُّض للخداع. إنما هي، استجابة بسيطة، سريعة، وربما متساهلة أكثر من اللازم، مع مجموعة من عمليّات السرقة والخداع التي يتعرّض لها القارئ في فلسطين منذ سنوات، يتبرّم منها حينًا ويتقبّل خداعه حينًا آخر، لقلّة حيلته أمام وضع ثقافي متهالك عمومًا.

يحدث أن نتعرّض لعمليّات خداع وسرقة عند شراء كتاب ما.. ماذا تفعلون في هذه الحالة؟

مضى وقت طويل على كلّ واحد منا، منذ أن تعرّض لأولى عمليّات الخداع والسرقة عند شرائه لأيّ كتاب، ومنذ ذلك الوقت، تعوّدنا التعرّض لهذا النوع من الخداع، وتعوّدنا رؤية الكتب وهي تسرق وتنسخ إلى نسخ رديئة وتمسخ صفحاتها بشكل منفّر. نقرؤها متقبّلين لحالة ثقافية متردّية، متجنّبين التبرّم الدائم من رداءة الصفحات والنسخ، كي لا نشتت انتباهنا أثناء القراءة، وأيضًا بسبب الأثمان الباهظة للكتب بنسخها الأصلية.  

لكن، ماذا تفعل عندما تتعرّض لخداع يبالغ في وضوحه وقباحته ووقاحته؟

قبل عدّة أيام، وجدت نفسي أشتري كتابًا، مغلفًا بغلاف بلاستيكي شفّاف، ربما لمنعي من فتحه والاطلاع عليه، ومن الملفت للانتباه – الآن أنتبه لهذا الأمر، أن الكتب التي تحيط هذا الكتاب لم تكن مغلّفة بأي أغلفة بلاستيكية شفافة رقيقة تمنعني من الاطلاع عليها. الكتاب، هو "رسائل من تحت الأرض"، للروائي الروسي العبقري، دوستويفسكي، ترجمة سامي الدروبي، المترجم المتميّز بترجمة أعمال دوستويفسكي الكاملة والأكثر ثقة من جانب القارئ العربي، وطبعة المركز العربي الثقافي، الذي يعتبر أيضًا أحد دور النشر الأكثر تميّزًا ومهنية في سوق الكتب العربية.

[[{"fid":"68446","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":986,"width":576,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

بعد عدّة ساعات، كنت في البيت أتهيّأ لقراءة الكتاب، وفتحت الصفحة الأولى، ووجدت طبعة مختلفة، لدار نشر مختلفة، لمترجم مختلف! دققت مرات ومرات في الكتاب، بحثًا عن أي جملة تشير لتعاون ما، ولكن تنبّهت إلى أنّ أي تعاون غير ممكن. الغلاف مختلف تمامًا بالمترجم والشكل عن الصفحة الأولى من الرواية. وغلبني الكسل الدائم من العودة مرة أخرى إلى المعرض، كي أسمع تبريرات ربما تكون أكثر وقاحة وقباحة من عملية الخداع ذاتها.

[[{"fid":"68451","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":986,"width":576,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

وكي لا أكرر نفسي مرّة أخرى، إلّا أن الفرق بين عملية الخداع هذه، وعملية الاحتيال المتعارف عليها، بين القارئ وبائع الكتب عمومًا، وهي نَسخ نُسَخ رديئة بجودة أقلّ ولكن بسعر أقلّ، وبين أن تستخدم تصميمًا رائجًا متعارفًا عليه بين قرُّاء دوستويفسكي وموثوق به، وتضعه لنسخة أخرى من الرواية، أقلّ جودة من ناحية الترجمة والطباعة، هو مؤشر على أنّ عمليات الاحتيال والخداع والرداءة في سوق الكتب في فلسطين قد تجاوزت كل الحدود الممكن احتمالها.

وملاحظة أخيرة: كان من غير الممكن التعرُّض لأسماء المكتبات المشاركة في المعرض، ليس تجنُّبًا للتشهير، بل لأن عملية احتيال كهذه وعلى الرغم من كونها أكثر جرأة في وقاحتها، إلّا أنّها لا تعدو سوى أن تكون حلقة من حلقات الاحتيال والخداع المتعارف عليها في سوق الكتب. وليس مستغربًا أن نجد أنّ ممارسات كهذه تأخذ طابعًا مؤسساتيًا ومنظّمًا، لأنّه ومنذ زمن طويل، قد تمّ التعارف على الفساد كطابع أساسي لكافة المؤسسات والنشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعلى أن تكون الاستقامة والنزاهة حالة استثنائية إن وجدت. وهو ليس مستغربًا أيضًا أن نجده في معرض بسيط للكتاب، كمعرض بلدية البيرة، إذا كانت مثل هذه الممارسات قد تمّت ممارستها بشكل أوسع وأكثر تنظيمًا وفوضويّة في آن، في معرض فلسطين الدولي للكتاب على سبيل المثال.

وربما من المثير الانتباه، إلى أن كتب دوستويفسكي تحديدًا، تشكّل نموذجًا، لمجزرة السّرقة والخداع هذه، وهو الأمر الذي يشير إلى أنّه وعلى الرغم من تردّي الوضع الثقافي، إلا أنّ بروز هذا التردّي يشير إلى طفرة قراءة جادّة وحقيقيّة لدى الجيل الشاب من الممكن التعويل عليها في ظلّ تفشّي الرداءة في المشهد الثقافي الفلسطيني.


اقرأ/ي أيضًا:

تركوا بضاعتَهم في الخنادقِ وانصرفوا

إليكِ.. ثلاثُ رسائل مهزومة!

مستودع الأنيس الرقمي.. مركز بحجم عاصمة