انتشرت خلال الفترة الماضية في مناطق مختلفة من غزة وجوارها، دعوات عامة تدعو إلى التسجيل في "جيش تحرير فلسطين"، في برنامج الإعداد والتجهيز، مستهدفة الفئة العمرية من 17-25 من الرجال. دفعت مشاهدة ملصق الدعوة لبعض التذكر عن التجنيد لتحرير فلسطين خلال قرن من مقاومة المشروع الاستعماري، والإعداد للحظة التحرير المنتظرة من يوم الاحتلال الأول. هنا محاولة لتذكر بعض هذا التاريخ من خلال لحظتين.
لحظة أولى
صيف العام 1936 وبينما كانت ثورة أهل البلد تشتد، عاد جدي من يافا حيث كان عاملاً في مينائها، كعامل مياومة بعشرين مليم في اليوم، وبعدما وصل بلدته كان في استقباله أحد ثوار البلاد، وشهداء رصاص فصائل السلاح لاحقًا، محمد شلش عبد الجابر، فأعلمه أن "دور بندقية الثورة" عليه، لمدة خمسة عشر يومًا، وإن رغب بتجاوز التجنيد الإجباري فعليه دفع جنيه ونصف، ولم يكن في جيبه إلا جنيه واحد ثمرة كده في الأيام السالفة.
فحمل جدي البندقية.
ربما تكون هذه القصة عن "الدور" مؤشرٌ على أول تجنيد فرض في فلسطين، للمشاركة في حرب تحريرها من الاستعمار الأجنبي. تجند أهل فلسطين كما بقية البلاد العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واشتركوا في الدفاع عن أرضهم حتى آخر رمق كما تبرز عشرات شواهد القبور في بلدات ومواقع المواجهة. وبعد حين من هذه اللحظة، ومن لحظة جدي في ثورة أهل فلسطين الكبرى 1936-1939، كانت لحظة جديدة.
في شهر آذار/مارس 1948، ابتدأت قيادة حامية يافا بانتخاب عدد من شبان المدينة للتوجه إلى دورة ضباط في سورية
خلال شهر آذار/مارس 1948، ابتدأت قيادة حامية يافا بانتخاب عدد من شبان المدينة للتوجه إلى دورة ضباط في سورية، تحت إشراف اللجنة العسكرية العربية التي كانت تشرف على تجنيد وتدريب المتطوعين من أهل البلاد ومن أبناء العالم العربي والإسلامي، الراغبين في المشاركة في معركة رفض تقسيم فلسطين. ولم يكن الأمر مقتصرًا على يافا، إذ نشرت الصحف الفلسطينية المختلفة إعلانات مختلفة تعلن عن استدعاء الراغبين لدورة الضباط.
أعلن في 25 آذار/ مارس 1948 عن استدعاء المسجلين للدورة، وأجريت المقابلات والكشف الطبي في مقار اللجان القومية، واستهدفت الدورة الجديدة أهل البلاد من الفئة العمرية 18-30 عامًا. وفي 26 من آذار/مارس 1948 قابل آمر حامية يافا المقدم عادل نجم الدين، وآمر مدرسة الضباط في دمشق إدوارد بيروتي، أربعين شابًا سجلوا للالتحاق بدورة الضباط، وأعلن أن المدرسة ستفتح أبوابها في نيسان/أبريل 1948.
اقرأ/ي أيضًا: ثورة يافا.. أوّلُ كفاحنا المُسلح
ترك عددٌ من الشخصيات المشاركة في هذه الدورة مذكراتهم عن الدورة، كان منهم صبحي الجابي (مواليد نابلس 1929)، فكتب أنه شارك في الدورة خمسة وستين متدربًا، ونظرًا لتطورات القتال في فلسطين، اختزلت الدورة لتنتهي في كانون الثاني/يناير 1949 بدلاً من أن تستمر لعام ونصف. ونظرًا للهزائم المتتالية التي وقعت في فلسطين، وقرار الدول العربية المختلفة، المباشر وغير المباشر بإنهاء المقاتل الفلسطيني، تفرق الضباط، فاعتزل البعض، فيما التحق المعظم في وحدات الجيش السوري ووحدات جيش الإنقاذ قبل حله في جنوبي لبنان.
برز عددٌ من ضباط هذه اللحظة خلال السنوات التالية، كان منهم على سبيل المثال محمد الشاعر، وكذلك عبد الرزاق اليحيى.
اللحظة الثانية
شكلت لحظة أيار/مايو 1964 لحظة استثنائية لجل ضباط هذه الدورة، حيث قرر المؤتمر الفلسطيني الأول المنعقد في القدس تأسيس منظمة التحرير الفلسطيني، وكان من أبرز المقررات المتخذة كذلك الإعلان عن بدء تجنيد أهل فلسطين في جيش التحرير الفلسطيني. وخلال الشهور التالية بدأت إعدادات هذا الجيش، وتم تعيين وجيه المدني قائدًا عامًا لجيش التحرير الفلسطيني، وحلَّ الجابي رئيسًا لأركان الجيش.
بدأت الصحف بنشر إعلان التجنيد للجيش الجديد، ومنها الصحف الصادرة في بقية فلسطين الوسطى، إذ لم يقتصر التجنيد على موقع جغرافي واحد من مواقع الشتات الفلسطيني. فنشرت -مثلاً- صحيفة فلسطين في 12 كانون الثاني/يناير 1965 إعلانًا صادرًا عن مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس، يعلن عن حاجة منظمة التحرير الفلسطينية لدفعة من الشبان الفلسطينيين الراغبين في الانتساب إلى مدرسة ضباط الصف في الجمهورية العربية السورية لصالح وحدات جيش التحرير الفلسطينية. وحددت الفئة المستهدفة بالرجال من 18-25 عامًا.
قرر المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس الإعلان عن بدء تجنيد أهل فلسطين في جيش التحرير الفلسطيني، وتم تعيين وجيه المدني قائدًا عامًا
بدأ التدريب، وتأسست وحدات مختلفة من جيش التحرير الفلسطيني، كان أبرزها كما ستظهر الأيام كتائب المغاوير في قوات القادسية التي تدربت واستقرت في العراق، وشملت في صفوفها فلسطينيين غطوا كامل جغرافيا فلسطين المحتلة وبقيتها، كان جلهم من العاملين في دول الخليج العربي، الذين لبوا نداء التجنيد أول إعلانه. وكذلك قوات عين جالوت التي استقرت في مصر، وستقود جزءًا أساسيًا من معركة المقاومة في قطاع غزة بعد حين.
اقرأ/ي أيضًا: معركة واد القلط.. الثورة تصطاد أحد "أبطال إسرائيل"
كانت رغبة الشقيري، كما جل أعضاء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية -وفق ما تظهر السجلات الوثائقية المختلفة المتوفرة- أن يأخذ جيش التحرير الفلسطيني دورًا حقيقيًا في الإعداد لمعركة تحرير فلسطين، ومن ذلك الإسهام في معارك العمل الفدائي، فكان تأسيس أبطال العودة، وكانت رغبة المنظمة أيضًا أن يتجاوز الأمر، التجنيد التطوعي لصالح تجنيد إجباري عام.
أعلن الشقيري في آذار/مارس 1965، بعد احتفالات عيد النصر في غزة، عن قرب بدء العمل بنظام التجنيد الإجباري في غزة والأقطار العربية المضيفة للعائدين الفلسطينيين. وأعلن أن معسكرات تدريب شعبية ستقام في كل مكان يجتمع فيه الفلسطينيون لإعداد المواطنين الذين لا يسري عليهم نظام التجنيد الإجباري، لتقدمهم في السن أو لاستحالة تفرغهم للعمل العسكري، كما أعلن عن القرار بإقامة معسكرات خاصة لتدريب المرأة الفلسطينية.
منعت ظروف مختلفة تأسيس جيش التحرير الفلسطيني وفرض التجنيد الإجباري، لكن بعد النكسة أثبتت الأيام أن جزءًا من رسالة الجيش تحققت
منعت ظروف مختلفة، نجاح الشقيري وقيادة المنظمة في تحقيق غايتها النهائية من تأسيس جيش التحرير الفلسطيني، وكذلك حدت من قدرته على فرض التجنيد الإجباري. لكن بعد حزيران/يونيو 1967 ستثبت الأيام أن جزءًا من رسالة الجيش تحققت، وإن لم يكن بأخذ دوره في معركة التحرير، فبأخذه زمام معركة المقاومة الممتدة.
اقرأ/ي أيضًا: معركة القعدة: أبناء النكبة يقولون كلمتهم
وبخلاف الإضاءات البحثية المختلفة التي تبرز تجربة المنظمة وجيشها في غزة وجوارها، خصوصًا مع تشكيل "قوات التحرير الشعبية"، فإن للجيش وقواته، خصوصًا كتيبة المغاوير 421، دورًا مركزيًا، لا يقل أهمية في معركة المقاومة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، عن تجربة "قوات التحرير الشعبية". فهذه الكتيبة التي كانت جزءًا من قوات جيش التحرير انتقلت من العراق إلى المملكة الأردنية بعد اندلاع الحرب، وسعت مباشرة لدخول المعركة، لكنها تلقت هجمات صهيونية أفقدتها عشرات الشهداء في منطقة الجفتلك. ورغم الهزيمة الساحقة، قُدّر لهذه الكتيبة في مقبل الأيام أن تقود عملاً نوعيًا، لعله كان رافعة من أهم الروافع التي تأسست عليها تجربة المقاومة الفلسطينية المسلحة اللاحقة في بقية فلسطين الوسطى.
عن اللحظات التالية للهزيمة، كتب أحد كوادر كتيبة المغاوير موسى الشيخ (مواليد بلدة عقربا 1946- توفي في رام الله 2020): "نحن شبان كتيبة المغاوير الفلسطينية في الفرقة العراقية المدرعة الثامنة، الذين تذوقنا طعم الهزيمة قبل أن نخوض المعركة، لم نضع أمامنا خيار الانسحاب أو الرضوخ لليأس، بعضنا تركوا مواقعهم عائدين لزوجاتهم اللواتي بدون لنا كنساء فاتنات على الحدود العراقية الأردنية في لحظات الوداع، أما الغالبية الكبرى، فقد رفضوا العودة محطمي الأفئدة الي حيث عاشوا وعملوا، كنت من اولئك الذين فضلوا عذاب الفراق على مواجهة الحبيبة مهزومًا كسير الخاطر".
وأضاف: "في هذه الفترة ظهرت الفائدة الكبرى لوجودنا في قواعد الثورة، فنحن أبناء كتيبة الصاعقة الفلسطينية 421، امتلكنا خبرات كبيرة ومعرفة واسعة في مجال التدريب العسكري وقيادة العمليات والتكتيكات القتالية، وكان من جراء ذلك أننا ساهمنا في بناء القوات الفدائية تدريبًا وتجهيزًا للشروع في العمل الفدائي". عمل الشيخ وعشرات من كوادر الكتيبة بصحبة شباب الثأر، وفتح، وفصائل منظمات التحرير الفلسطينية الأخرى، وقاتلوا إلى حين!
ولعل إعلان خانيونس الأخير، مؤشر لميراث من السلاح، وميراث من الدم ما زال مستمرًا ومتواصلاً جيلاً بعد جيل. ويبقى الأمل.
اقرأ/ي أيضًا: