في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1914، قدّم (هربرت صموئيلHerbert Samuel ) مسودة مذكرة حكومية إلى رئيس الحكومة (هربرت أسكويثH. H. Asquith )، يدعو فيها لإقامة دولة يهودية في فلسطين تحت حماية بريطانية، مستندًا على ما ادّعى أنّه أهمية استراتيجية قصوى لبريطانيا، بالإضافة إلى ما وصفه بالحراك والهياج بين 12 مليون من المشتتين، المحاطين بتعاطف أوروبيّ متنامي مع قضية استعادة الشعب العبراني لأرضه.
ردّ رئيس الحكومة البريطانية "اسكويث" ساخرًا من فكرة أنّ اليهود يستطيعون الاحتشاد مرّة أخرى، مضيفًا بتهكّم "يا لهم من مجتمع رائع". ثم علّق: لستُ مهتمًا بمقترحك الذي سيبدو كنسخة عصرية عن قصة (تانكرد Tancred)، لكنّه أعادني إلى التصوير الذي قدّمه (ديزي Benjamin Disraeli) في واحدة من أفضل مقولاته "العِرق هو كل شيء"، مُعرضًا بخلفية صموئيل العبرانيّة.
لا يمكننا مواجه التحدي الكبير بالتلويح بقبضات أيدينا في الهواء، ولكن بفهم حقيقي لعقل الإنسان الذي خلّف لنا هذه الكارثة
ظلّت الأفكار الصهيونية تقابل بمثل هذا التهكُّم رغم إلحاحها، حتى أعاد (سايكس Mark Sykes ) اكتشافها عام 1916، حيث اتصل بهربرت صموئيل لمعرفة المزيد عنها، ليصبح فيما بعد نصيرها الأكبر، وليضعها في تصوّراته عن النظام الجديد في المناطق العثمانية مع نظيره الفرنسي (بيكو François Georges Picot).
تصوّرات بيكو هذه، وإعلان (بلفورArthur Balfour) الذي تلاها، كانت مما يثير الشهيّة الصهيونية بالاستمرار دون تهدئة الخاطر، بسبب التردد في مكتب الحرب البريطاني في مناقشتها. ويظهر ذلك في رسالة (حييم وايزمن) إلى (فيليب كير) في سكرتارية رئيس الحكومة: "إنني أشعر أننا بلغنا نقطة حرجة، وأشعر بأنني لا أناشدك من دون جدوى. فلتساعدنا!".
جموع ما سبق هي ما يجعلني قادرًا على أن أدع إعلان بلفور للصمت، وأن أخضع صبوتي للاستماع للشروط الحقيقية للتاريخ في مسرحه الطبيعي، أن أعود إلى المسألة الأساسية.. "القتال".
في خضمّ الحرب العالمية الأولى، حدد العثمانيون والألمان استراتيجيّتهم العظمى بخلق تهديد دائم ضدّ قناة السويس، يجبر البريطانيين على تكريس جهد حربي كبير لحماية القناة، ما يضعف جهدهم الحربيّ على جبهات أخرى.
مكتب الحرب البريطاني تيقّظ إلى أنّ الدفاع السلبي عن القناة يحقق للأتراك مرادهم، وعلى ذلك تقرر تحريك التجريدة المصرية صوب تخوم فلسطين لإجبار الجيشين السابع والثامن العثماني على التقهقر شمالًا إلى يافا. المهمّة التي لم تكن سهلة على الإطلاق، بسبب الخط الحربي القويّ الذي بناه الأتراك والألمان من غزة إلى السبع والذي جاوز طوله 48 كيلومترًا.
كثّف الإنجليز محاولتهم لكسر خط غزة الحربيّ على مدار شهرين، ليتقلبوا بين فشلين متعاقبين فيما عرف بمعركة غزة الأولى والثانية.
الاخفاقات المتتالية حدت بمكتب الحرب البريطاني إلى إحلال الجنرال (إدموند اللنبي Edmund Allenby) بدلًا من (السير اركيبالد موراي Archibald Murray) لقيادة التجريدة المصرية في إكمال محاولة كسر خط غزة الحربي.
الرجل الذي كان يعرف في أوساط الجيش بـ "الثور" بسبب مظهره الفيزيكي وصرامته وسوء مزاجه وأسلوبه في القتال، وُضع في مواجهة وضعٍ عسكريٍ غير عادي، فقد انتهت معركة غزة الثانية دون أن يصل القتال إلى نتيجة نظرًا لتعادل ضغط الطرفين، ثم تكرّست وضعية قتالية تفرض على الطرفين الإحجام عن كسر حالة العطالة العسكرية القائمة بسبب الكلفة الباهظة والانتحارية لأي إقدام عسكري ممكن، الحالة التي تعرف في الأوساط العسكرية بـ "الردب"، والتي تشبه حالة المات الضائع أو "الملك المخنوق" في لعبة الشطرنج.
في واقع الأمر لم تكن للجنرال اللمبي أفضلية عسكرية على سلفه في الحرب الكلاسيكية ذات البعد الواحد، ولذلك سعى للخروج من قالبها من خلال خلق نماذج تجسّد فكرة حرب بسيطة متعددة المداميك عصية على التوقُّع.
فقد بدأ عمله بنقل مقرّ القيادة الذي اتخذه سلفه في مصر إلى رفح قريبًا من قواته التي بدأت لأول مرة ترى قيادتها تتجول في الخنادق وتشرف بشكل مباشر على نشاطها اليومي.
لم يكن الجنود وحدهم من لمسوا تغيّرًا في نمط القيادة، فـ "الثور" كان يرمي بالأوراق التي تتحدث عن الروتين اليومي بغضب معللًا ذلك بأن مهمّته تنحصر في إدارة القتال، في حين يستطيع صغار الضباط القيام بالأمور الإجرائية.
إدارة القتال في عين "الثور" تمثّلت في فهم جديد لرياضيات الحرب، يتم من خلاله قياس الموارد بشكل علمي من خلال استقدام عدد أكبر من مهندسي المصادر المائية، بالإضافة إلى تأسيس نظام خدمات طبيّة يعتمد على تقييم متوقع للخسائر البشرية، وافتراض نظام لإجلاء الجرحى ومعالجتهم، الأمر الذي انعكس بجلاء على معنويات الجنود، والذي جعله وجيشه على النقيض تمامًا مع جيش الخصم.
لم تكن غاية الجنرال اللمبي من الجهود التي راكمها اختبار الفعاليات العسكرية لمستويات الميدان من خلال الضغط على مراكز الثقل، فقد أدرك مبكرًا عدم جدواها، وانصرف إلى التنافس على توجيه الحرب نحو اختبارات جديدة، وزعزعة الشكل الحربيّ للعدو عن طريق فرض نوع حرب أخرى متحرّكة غير حرب الخنادق الجالسة التي لم يكن له أن ينافس فيها (فون كريسنشتاين von Kressenstein) قائد الجيش الثامن العثمانيّ ومهندس الخط الدفاعي العصي غزة/ بئر السبع.
قبل 100 عام ويوم من اليوم، وبعد أسبوع متواصل من القصف المدفعيّ والبحريّ، بدأ "الثور" حربه على غزة، لكنّه وخلافًا للسائد في عصره، ولسلفه لم يجعل من تدمير الجيش العثماني هدفًا له من خلال الهجوم المباشر.
في حالة الاستعصاء القتالي أو تفوّق الخصم، من الأجدى أن يكون التنافس مع العدو على توجيه الحرب نحو اختبارات أخرى غير اختبار الفعاليات العسكرية، لزعزعة الشكل الحربي للعدوّ بفرض حرب أخرى
قد استغل حالة الإرباك التي حلّت بالخصم بعد القصف الكثيف لتيسير مجموعة من الخيالة الخفاف تحت ضوء القمر الكامل نحو "تل الخويلف" الواقع على الطريق بين غزة والسبع، أي على خاصرة الجيش العثماني اليسرى، ومقابل قرية هريرة/الشريعة النقطة الوحيدة التي خلت من التحصين على طول الخط.
السيطرة على "تل خويلف" وكسر الحامية العثمانية في السبع، كشف طريق غزة/ السبع أمام الإنجليز، ما سهّل علىهم الوصول إلى مناطق الشعف، التلال المحيطة بغزة من المنطقة الشرقية، كالمنطار، والمظلة.
انهيار الخطّ الدفاعيّ العثماني الحصين لم يتسغرق مدة تزيد عن 7 أيام، لتنتهي معركة غزة الثالثة بنصر حاسم للانجليز في 7/11/1917، ترتّب عليه انسحاب شبه منظم لفون كريسنشتاين وقواته باتجاه الشمال.
الانتصار العجائبي للجنرال اللنبي وانعكاساته على الحالة المعنوية للجيش الإنجليزي الذي كان يواجه وضعًا صعبًا على الجبهات الأوروبية أغرى القيادة البريطانية أن ترسل للنبي رسالة مفادها: "القدس قبل عيد الميلاد"، المهمّة التي تمكّن فعلًا من إنجازها، ويكافأ عليها بتصويره في المخيال الأوربي بـ "فاتح القدس".
هوامش:
التاريخ: لا بُدّ للمرء من وقت طويل ليتعلّم كيف لا يضيّع وقته، وكيف يتحدد من التاريخ بالضروري الدقيق. في حال أسقطنا التاريخ الحربيّ، لا شيء يأذن لنا بأن نعتبر تاريخ الماضي بمثابة إعداد وتمهيد للحاضر.
جدوى الحكم الأخلاقي على التاريخ: الأخلاقيّة هي فكرة للإلتفاف على التاريخ، لكونها تجرّ إلى الخطابة والمسرح، ففي حالتنا تجعل من الفلسطيني يخطب لنفسه، والمثقف الفلسطيني يشاهد نفسه، فيعيش ويكتب محاولًا أن يجد نفسه في وقت واحد على خشبة المسرح وبين صفوف المشاهدين، ليصفّق على مصائبنا التي مضت، وأوجاعنا الروحية التي تمضي.
الذكرى المئوية: لا يمكننا مواجه التحدي الكبير بالتلويح بقبضات أيدينا في الهواء، ولكن بفهم حقيقي لعقل الإنسان الذي خلّف لنا هذه الكارثة.
بلفور: بلفور كما (سايكس-بيكو) ركام غازي لا طعم له ولا يصلح لشيء، لولا قانون السير الذي وضعه اللنبي على الأرض.
إدموند اللنبي: اشترط مكتب الحرب في الشخص الذي سيخلف موراي في قيادة حملة فلسطين عدة شروط من ضمنها أن يكون من رجال الحاشية ومن خلفية دبلوماسية، لكن اللنبي كان دبلوماسيًا على طريقته الخاصة؛ فما فهمه أنّ المطلوب من السياسي أن يقرأ الحرب لكي يتعلّم أن يفكر باستقامة، وأن يوفّر بذلك قواه، فالسياسي المماحك يضع عقدًا ودورات حيث يمشي صاحب العبقرية العسكرية نحو الهدف باستقامة، فالحرب تعلّم المرء أن يقول كل شيء بلا زيادة أو نقصان، أن يقوله بقليل من الكلام، ويكون الإيجاز بذلك بديلًا عن الحقيقة تقريبًا.
معركة غزة الثالثة: قدّمت معركة غزة الثالثة للعالم طفرة في الفكر العسكري، فقد شهد غلاف المدينة ولادة مفاهيم جديدة؛ كالفن العملياتي أو المناورة، فبدلًا من خوض حملة محافظة مؤسسة على الوزن والموارد في حرب استنزاف كلاسيكية، اجترح اللنبي أسلوبًا قتاليًا يقوم على مهاجمة نقطة الحسم لا مركز الثقل، فمهاجمة نقطة الحسم تعتبر السبيل غير المباشر للوصول إلى مركز الثقل عندما يستحيل ذلك بالسبيل المباشر، ويتحقق وضع النهاية العسكرية للحرب عبر "محور العلمية" الذي هو ميزة تشغيل القوة الذي يمر عبر نقاط حسم. يدعى كل ما أسلفت بالاقتراب غير المباشر.
هل لمعركة غزة ما تقوله لنا؟: في حالة الاستعصاء القتالي أو تفوّق الخصم، من الأجدى أن يكون التنافس مع العدو على توجيه الحرب نحو اختبارات أخرى غير اختبار الفعاليات العسكرية، وبالتالي زعزعة الشكل الحربي للعدوّ عن طريق فرض حرب أخرى، بعبارة أبسط هزيمة قالب الحرب.
قد تكون الموضوعات الحربية التي يمكن طرحها للاختبار بدلًا من الفعالية العسكرية على بعد نظرة منا، لكننا لا ننجح في إدخالها مداميك الحرب، لإن الحرب كما قال كلاوزيفتس: "أمر صعب التنفيذ رغم كونه بسيط الفهم والإدراك".
اقرأ/ي أيضًا:
عن صرفند الصغرى وجنود "أنزاك" وبندقيّة العنكوش