"أذكر أنه سجن شاب من بلدة الخضر قضاء بيت لحم عندنا، وبعد أن دخل الشاب إلى القسم، وكنت في ذلك الوقت الدبير (المسؤول عن السجن أمام الإدارة)، أخذت الشاب كي يستحم، ثم أخذته لغرفته، وعند المغرب خرج معي في جولة تعارف في الفورة (وقت الخروج إلى الساحة)، وعندها عرضت عليه العمل مع الأسرى صباحًا، إما في مزارع الدجاج، أو في مزارع البقر". كان هذا أحد "المقالب" التي أوقع فيها الأسير السابق محمد عصفور، أسيرًا في تجربته الاعتقالية الأولى.
أحد الأسرى خيروه في يومه الأول بين حلب البقر أو جمع البيض، فاستيقظ باكرًا في اليوم التالي وتحضر للعمل
يُبين عصفور، أن الأسير استغرب من فكرة وجود عمل في السجن، وبين خياري جمع البيض أو حلب البقر، قرر حلب البقر كونه مزارعٌ ولديه تجربةٌ سابقةٌ في حلب البقر خارج السجن.
اقرأ/ي أيضًا: صور | هدايا الأسيرات.. فيضُ حب وأمل حُرية
في اليوم الثاني استيقظ الأسير باكرًا قبل الأسرى، وارتدى زي "الشاباص"، وهو زيٌ تجبر إدارة السجون الأسرى على ارتدائه عند الخروج من القسم ويحمل اسم إدارة سجون الاحتلال. انتظر الأسير أن يأتي السجانون في الاقتحام اليومي للتأكد من عدد الأسرى، وجهز نفسه للعمل، لكن لم يأت أحدٌ لأخذه إلى العمل، بينما الجميع غارقين في النوم.
بعد ذلك وصل فطور الصباح، وهو بيضةٌ لكل أسير ومربى وزبدة، حينها اعتقد أن البيض هو ما قام الأسرى بجمعه من مزارع الدجاج صباحًا، فاستهجن أن الأسرى العاملين خرجوا ولم يأخذوه معهم، وأنهم بدأوا بتوزيع البيض الجديد!
هنا تجدر الإشارة إلى أن الأسير خلال دخوله إلى السجن يشاهد العديد من البركسات والمباني تكون مخصصة في الحقيقة لاستخدام إدارة السجون، لكنها تساهم فعلاً في اعتقاده أنها مزارع دجاج وبقر عندما يُطبخ على نار هادئة للمقلب، ويقنعه الأسرى بذلك.
لماذا المقالب؟
الأسير عصفور، أمضى 15 سنة في سجون الاحتلال، أخبرنا أن الأسرى مجبورون على عمل المقالب "حتى تستمر حياتهم في السجن، ويكون نوعٌ من الفكاهة بينهم، لأن الحياة قاسيةٌ جدًا داخل السجون" كما يقول.
الأسير السابق الكاتب المتخصص في قضايا الأسرى وليد الهودلي، يصف المقالب في السجون بأنها "نوعٌ من ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية التي يحاول الأسرى صناعتها للتعبير عن رغباتهم وإنسانيتهم النقية بعيدًا عن سطوة السجان، مثلها مثل أي نشاط ثقافي واجتماعي داخل السجن للخروج من الجو العام، وهي مساحة حرية يمارسها الأسير رغم أنف السجان".
المقالب في السجون نوع من ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية التي يحاول الأسرى صناعتها تعبيرًا عن إنسانيتهم
يؤكد الهودلي، أن ضغوطات السجن كبيرةٌ جدًا، إلا أن الأسرى يستطيعون صناعة الفرح حتى خلال التحقيق في الزنازين، مضيفًا أن الأسرى يصنعون المقالب ويعيشون على قصصها والضحك عليها لأيام، "وهذا ضمن الحياة الطبيعية والفطرة الإنسانية" حسب قوله.
قطف الزيتون ومقالب أخرى
من بين المقالب التي كان الهودلي شاهدًا عليها خلال سنوات اعتقاله العشر، أنه عندما يأتي أسيرٌ جديد، في مثل هذه الأيام المتزامنةمع موسم قطف الزيتون، يتم إخباره أن عليه العمل غدًا مع الأسرى في قطف شجر الزيتون الموجود خلف السجن، وبالفعل يصحو باكرًا ويتجهز لذلك، وعندها يضحك عليه الأسرى.
فيما يروي عصفور أنه في أيام "النيكيون" -تنظيف الغرفة أسبوعيًا-، حيث تزيد إدارة السجون من كمية المياه الموردة للسجن، تحدث مقالب "صعبةٌ" على حد وصفه.
ويُبين أن تنظيف الغرفة في كل مرة يُطلب من أسيرين اثنين، لكن بقية الأسرى يصرون على العمل معهما في هذا اليوم بسبب وفرة المياه، في ظل أجواء الحر في السجن خاصة سجون النقب وبئر السبع وعسقلان. خلال ذلك، يرشُّ الأسرى المياه على بعضهم "ما يصنع جوًا من الفرح" كما قال.
ومن المقالب في هذا اليوم، وفق عصفور، أنه عندما يبدأ أحد الأسرى في هذا اليوم للاستحمام وبينما يضع "الشامبو" على رأسه، فيرشُّ أحد الأسرى بهار العصفر من فوق الستارة على رأسه، وحين يُشاهد أن لون المياه أصبح أصفر، يبدأ بالصراخ وسب الاحتلال لأن المياه ملوثة، كما يعتقد.
يرش الأسرى، العصفر، على الأسير خلال الاستحمام فيظن أنه المياه ملوثة ويصرخ ويشتم
ويروي الأسير السابق محمد عبد الله، أن الأسير الجديد لا يعرف هيكلية غرف الأسرى، وأن الأبراش (الأسرّة التي ينام عليها الأسرى وعادة تكون من طبقتين) مثبتةٌ بقوة في الحائط. هنا يُخبر الشبان، الأسير الجديد بأن عليه مساعدتهم في تحريك "البرش" للتنظيف تحته، ويتصرفون كأنهم يساعدونه في سحب البرش بينما يضع هو كامل طاقته في سحبه دون جدوى.
اقرأ/ي أيضًا: موعد أول مع حيفا
تابع، "يبدأ الأسرى بالصراخ عليه: اسحب بقوة، اسحب أكثر. مش نافع ولك! حتى يهلك".
ويبقى الأسير عرضة للمقالب حتى يومه الأخير مهما بلغت خبرته في الاعتقال، فقبل يوم من الإفراج عنه يكسر رفاقه البيض على رأسه مثلاً، أو يخلطون المنسف (ومنسف السجن لا يحمل إلا الاسم والأرز) ويسكبونه على رأس الأسير دون علمه.
المقالب تتطور وتُبتَكر
يقول وليد الهودلي، إنه لا يوجد تاريخٌ محددٌ لبداية المقالب في السجون، "فالأسير هو أسير حرية وليس جنائي، لذلك يمارس حياته ضمن مسار الحياة الإنسانية الطبيعية، لأنه إنسان حر وكريم بداخله ويمارس الفطرة الإنسانية على طبيعيتها، ومنها أن يفرح وأن يداعب الأسرى بعضهم البعض، وصناعة الجو الإنساني الطبيعي".
المقالب في السجون تتطور باستمرار ويتم ابتكار مقالب جديدة حسب كل ظرف وزمان
وأضاف، أن المقالب منتشرة لدى جميع الأسرى بغض النظر عن العمر أو المدة التي أمضاها في الأسر، وهي تتطور باستمرار ويتم ابتكار مقالب جديدة حسب كل ظرف وزمان، وبالتالي تختلف المقالب مثلاً في سجون الخيام عنها في سجون الغرف.
أوقات جدية لا ضحك فيها
يؤكد الأسير عصفور، أن في الحياة داخل السجن تكون "فتراتٌ جديةٌ" من بينها السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى، حيث كانت مخابرات الاحتلال تزج "العصافير" -جواسيس ينتحلون صفة أسرى- داخل السجون، ما استوجب الحذر الأمني، واختلط الأسرى القدامى وعددهم حينها بالمئات مع آلاف الأسرى الجدد.
ويستذكر وقتها حالة الاستنفار في سجن عسقلان خلال فترة اجتياح مخيم جنين، حيث أغلق عليهم السجانون الغرف ومنعوهم من الخروج للفورة خوفًا من ردة فعلهم. حتى أن مدير السجن كان يصرخ في وسط الساحة بأن عدد الشهداء الفلسطينيين أقل بكثير مما يعتقدون لتهدئة الأسرى.
ومن الفترات التي تخلو من المقالب، وفق عصفور، فترات الحروب أو العدوان على قطاع غزة، وخلال الإضرابات الكبرى عن الطعام، حيث تتسم السجون بالجدية والاستنفار.
اقرأ/ي أيضًا: