26-أكتوبر-2022
ميناء غزة

على ارتفاع 14 مترًا وبقُطر مترينٍ ونصف؛ لم تعد منارة ميناء غزة علامةً لإرشاد قوارب الصيادين الذين يقضون ليلهم في البحر؛ فقد أطفأت أنوارها منذ شهور لعطلٍ أو إهمال ما ويسترشدون عوضًا عنها بأنوار المدينة المتلألئة على بعد أميال.

منارة

تلك المنارة التي أنشأها فنانٌ تشكيلي صيف 2016، تبعد عشرات الأمتار عن لافتةٍ تُرجمت من الإنجليزية إلى العربية بشكلٍ معكوس وتحمل عبارة (الوصول-المغادرة) وتحمل ترويسة "سلطة الموانئ"، وقد ثُبّتت قبل المنارة بـ15 شهرًا على مدخل الميناء الممتد على مساحة 48 ألف مترٍ مربع.

ميناء غزة

على الأرض، فإن المنارة المُطفأة واليافطة "السيئة الترجمة"، ليستا سوى خطوتين رمزيتين لمحاولة إكساب غزة نوعًا من التحرر والانفكاك من الاحتلال، وهذا يُذكّرنا باشتراط المقاومة تشغيل مرفأٍ للمدينة في مفاوضات وقف إطلاق النار خلال حرب 2014 التي استمرت أكثر من سبعة أسابيع.

إلا أن رمزية ميناء غزة لم تشهد طوال السنوات الماضية فتراتٍ طويلة من الخطوات الرمزية السياسية. فمن شرفاتهم؛ يذكر سكان العمارات السكانية المجاورة للميناء مشاهد انطلاق قوارب نحو الأفق البحري، يستقلها "مسافرون" مع حقائبهم أواخر أيار/مايو 2018 قبل أن تعترضها قوات الكوماندوز الإسرائيلية وتعتقلهم بمجرد تجاوزهم الميل البحري الثاني عشر.

من شرفاتهم، يذكر سكان العمارات السكانية المجاورة للميناء مشاهد انطلاق قوارب نحو الأفق البحري، يستقلها "مسافرون" مع حقائبهم قبل أن تعترضها قوات الكوماندوز الإسرائيلية

هؤلاء "المسافرين" - بشكلٍ رمزي- كانوا يُدركون تمامًا أن رحلتهم المنطلقة من الميناء لن تطول كثيرًا وأنه سيتم اعتقالهم، بعد أن أخفقوا سابقًا بالسفر إلى الخارج؛ سواءً لتلقي العلاج أو الدراسة الجامعية خلال فترات سابقة طال فيها إغلاق معبر رفح الحدودي مع مصر.

وبحسب مراقبين؛ فإن تلك الاستراتيجيات "الرمزية" التي يقودها نشطاء أو فصائل فلسطينية كانت مدفوعةً من مبدأ "إكمال مشوار" الانسحاب الإسرائيلي البري من غزة قبل 17 عامًا، وأن ذلك يُمكن أن يتوازى مع "حرية" أخرى في أن تكون "بحرية" هذه المرة، على غرار "الحرية الجويّة" التي عاشتها غزة لأقل من 3 سنوات عبر مطارها الذي كان ثمرة اتفاق أوسلو الذي كان يأمل الفلسطينيون أن يفضي إلى قيام دولتهم بعد خمس سنوات من توقيعه.

ميناء غزة

قبل ذلك، كانت هناك محاولات "معاكسة الاتجاه" ففي أيار/مايو 2010، لقي 10 أتراكٍ مصرعهم برصاص البحرية الإسرائيلية عندما حاولوا الوصول من بلادهم إلى ميناء غزة على متن قاربهم الشهير "مافي مرمرة"، حين باغتتهم القوات في المياه الدولية القريبة من أسدود.

ولم تنجح في الوصول إلى ميناء غزة سوى سفينتين تضامنيتين فقط؛ إحداهما من قبرص والأخرى من إيطاليا في العام 2008، فيما توالى اعتراض سفن تضامنية مماثلة على يد قوات البحرية الإسرائيلية.

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في غزة مخيمر أبو سعدة يقول لـ الترا فلسطين إن سلطات الاحتلال لا تتقبل فكرة أي نشاطٍ بحري رمزي قد يضع حجر أساس لإنشاء ميناء في غزة، ومن بينها ترى أن اعتراض سفن كسر الحصار التي شهدت زحمًا قبل أعوام، يمثل ضرورة بالغة الأهمية لتحطيم أي فكرة لإيجاد ذلك الميناء الذي قد يوفر 50 ألف فرصة عمل حال بنائه وتشغيله.

فلسطين

أما مدير مؤسسة "بال ثينك" للدراسات الاستراتيجية عمر شعبان فيؤكد أن إنشاء تلك الواجهة البحرية لتكون منشأة اقتصاديةً حقيقية لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال تطبيقًا لفكرة فصل غزة سياسيًا عن المشروع السياسي الفلسطيني.

ويقول شعبان لـ الترا فلسطين: "تلك فكرةٌ سخيفة، فلطالما غزة رفضت كل أشكال محاولات الفصل عدا عن أنها رفضت بشكلٍ وطني ضغوط بعض الجهات لوضعها في الزاوية المُقصاة والمهملة طوال أعوام".

وفي شهر أيلول/سبتمبر الماضي، أزاحت فصائل فلسطينية ستارًا عن حجر الأساس لتدشين ممر مائي في الميناء، داعين إلى حق قطاع غزة في حقليّ الغاز الطبيعيين (مارين غزة ومارين2) اللذين يقابلان شواطئها حين اكتُشفا خلال العامين 1999-2000.

يُجمع المراقبون أن حتى أفضل الخطط التنموية في قطاع غزة سيُحكم عليها بالفشل؛ طالما أن الفلسطينيين محرومون من أراضيهم ومواردهم الطبيعية ويحرمون من حقهم في إنشاء ميناء

ويُجمع المراقبون أن حتى أفضل الخطط التنموية في قطاع غزة سيُحكم عليها بالفشل؛ طالما أن الفلسطينيين محرومون من أراضيهم ومواردهم الطبيعية ويحرمون من حقهم في إنشاء ميناء يُتيح لهم الانخراط في أبسط الأعمال التجارية والأنشطة الاقتصادية.

يُذكر أن العديد من الدراسات كانت قد أطلقت حول تأسيس ميناء حقيقي في غزة، كإنشاء رصيف بضائع على مساحة 200 متر ومحطة إنزال على عمق 11 مترًا في المياه؛ عدا عن تزويد المرفأ بكاسر أمواج يمتد على طول 730 مترًا.

ويرى الخبير الاقتصادي أسامة نوفل، أن منطقة ميناء غزة مهيأة بالفعل لتكون مرفأً حقيقيًا لمدينة ساحلية على المتوسط، وهو خيار استراتيجي، إذ كانت السلطة الفلسطينية في بداية إنشائها "تُناضل" لوقف حالة التبعية الاقتصادية لـ"إسرائيل"، عدا عن إمكانية زيادة ميزان الإيرادات لصالح وزارة المالية.

ويُضيف نوفل، أن تشغيل المرفأ يعني تحللاً على نحوٍ واسع من الاتفاقيات الاقتصادية المُبرمة بين السلطة و"إسرائيل"، وعلى رأسها اتفاقية "باريس"، كما يعني تقليل النفقات التي يضطر التجار سواءً في الضفة الغربية وقطاع غزة لدفعها لصالح سلطة الموانئ الإسرائيلية، مثل رسوم النقل عن كل شاحنة بتكلفة 3500 شيكل، و600 شيكل أخرى عن كل شاحنة تدخل عبر معبر كرم أبو سالم الفاصل بين قطاع غزة والخط الأخضر.

وقبل عام 1967، كان ميناء غزة محطةً صغيرة للاستيراد والتصدير في شكله البدائي. ووفقًا لقرار رئاسي في عهد الراحل ياسر عرفات، فقد تم إعلان تأسيس "سلطة الموانئ" بُعيد الاتفاقية في مصر، ليعقبها بناء الميناء ربيع العام 2000 بتمويلٍ من دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن طائرات الاحتلال سُرعان ما قصفت موقع المرفأ بحلول صيف ذلك العام، قبل أن يُعاد بناؤه وفقًا لاتفاقية المعابر الموقعة عام 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع.

ويخشى الفلسطينيون أن يكون مستقبلهم مشابهًا لحال 30 دولةً حول العالم لا تمتلك أي ميناء أو وجهةً بحرية، فاليوم، لا يتجاوز دور هذا "الميناء الحلم" سوى كونه مرفأً للصيادين صباحًا، ومتنزهًا عائليًا مساءً، عدا عن إلهاب أرصفته مشاعر الذاكرة لمن قضوا من الصيادين برصاص البحرية الإسرائيلية، وقوارب وصلت يومًا تحمل نشطاء وبعض الأدوية.