عبر إذاعة جازٍ أمريكية سمعت مروان عبادو يغني "نامي يا حنين نامي.. جاي وقت النوم والنوم كله ألوان، عنده حكاوي من زمان"، لم تكن القهوة الصباحية قد نجحت في إتمام مهمتها بعد، ولكن الكلمات العربية كانت "كافيين" من نوع أخر. رفعتُ الصوت لأعلى درجة ممكنة لأتأكد أن الكلمات العربية صادرةٌ حقًا من مذياع السيارة وليس من رأسي أو هاتفي بأي شكل من الأشكال.
لقد باغتتني بلادي الحزينة وأنا هاربة منها للبحث عن السعادة في بلاد أخرى!
إنّها السادسة والنصف صباحًا، ظننت أنه يهيأ لي، علّقت المذيعة ذاكرة اسم الأغنية والمغني، موضحةً أنه مغني فلسطيني! الموضوع هنا أشبه بدخول قبر بينما أنت كنت تُعد نفسك لنزهة صباحية معتادة! أنت الذي قررت أن تتناسى للحظات كومة الصوف المبلل العالقة على أسلاكٍ شائكة يستحيل فكها، تسميها بلاد، ها هي كل البلاد التي تهرب منها تباغتك.. تأتيك كلها في كلمة واحدة "فلسطيني" تقوله مذيعة أمريكية كنت تظن أن إتقانك للغتها سيحلّ كل مشاكلك النفسية.
تنتظر نهاية الأسبوع وكأن التعب من العمل هو أكبر مشاكلك، أنت الذي تريد أن تقنع نفسك أنك ستنجو عندما تُبسط أحزانك، تًقسمها على أيام الأسبوع، توزعها بالتساوي على خمسة، وتبقي يومان حران من المعاناة.
تتعلم الاعتداد بالنفس من خلال أن لا تكون أنت، تريد أن تكون طبيعيًا مثل الآخرين تنشغل بزينة الشوارع خلال مواسم الأعياد عن مأساتك، تريد أن تكون جزءًا من مجتمع لديه طاقةٌ وفيرة على الضحك في وجوه الغرباء، لديه حبٌ لا تفهمه للقطط والكلاب، أن لا تفهمه ولكنك تريده لأنك تظن أن هذا هو الطبيعي. الطبيعي أن نحب القطط لا أن نخاف منها، أن نطعم الكلاب لا أن نعتقد أنها نجسة!
لا تفهم مشاعرك اتجاه البلاد إلا عندما تكون بعيدًا عنها، ليس الموضوع حنينًا يربك الحقيقة بل العكس ربما
لا تفهم مشاعرك اتجاه البلاد إلا عندما تكون بعيدًا عنها، ليس الموضوع حنينًا يربك الحقيقة بل العكس ربما. البلاد الآن في ذهنك لمحات، لمحة لبائع الفلافل وأخرى لغروب شمسٍ مؤطرٍ بنافذة سيارة أجرة، البلاد يومٌ صيفيٌ طويل أو أطفالٌ عائدون من المدرسة بقمصان زرقاء وحقائب ظهر كبيرة، أحاديثهم وأكياس الشيبس المملح في أيديهم هي البلاد، الكتابات على الجدران، السلاسل الحجرية المبنية على الطراز القديم (السناسل).. البلاد وجهك التائه عندما تدرك أن الحياة التي تتمناها لأطفالك لا يمكن أن تكون في البلاد التي تحثّهم على حبها. ها أنت تدخل القبر من جديد بينما أنت في طريقك إلى نزهة!
يتقدّم الحنين للبلاد في قلبك بسرعة عند أول ذكر لها، يبدو الأمر مثل الحب الأول قويٌ وحادٌ وغير قابل للتشكيك
يتقدّم الحنين للبلاد في قلبك بسرعة عند أول ذكر لها، يبدو الأمر مثل الحب الأول قويٌ وحادٌ وغير قابل للتشكيك، ولكن كل الذين تعدوا مرحلة الحب الأول يتساءلون: هل هو أقرب للهرمونات منه للمشاعر؟ هل هو تجربة وراءها الرغبة أم أنه مجرد حاجة للوقوع بالتجربة؟ وماذا يحصل عندما يقع الإنسان في الحب مرة تلو مرة تلو أخرى. أين يصبح موقع الحب الأول من كل هذا؟ كثيرون يحاربون ليثبتوا أنّ حبهم للبلاد قويٌ مثل الحب الأول، وكثيرون يحاربون ليثبتوا أن حبهم للبلاد قويٌ لأنه أكثر من مجرد حب أول؟ فأيهما أنت؟
أعيد قراءة النص أشعر أنه غير مترابط، أريد أن أصف ما تسببت به أغنية مروان عبادو لي في ذلك الصباح، كيف تمكنت مفاجأة موسيقية من نسفي لأيامٍ متتالية. أعتقد أنك تعتقد أنني أبالغ قليلًا، لا ألومك ولكن أنت لا تعرف ماذا حصل.. لقد باغتتني بلادي الحزينة وأنا هاربة منها للبحث عن السعادة في بلاد أخرى!
اقرأ/ي أيضًا:
لطفي بوشناق: سأزور فلسطين في كل فرصة وأتمنى الغناء في غزة
أغنية "نادي الوحدات".. عناد المخيم ورفضه