20-يونيو-2019

على نارٍ هادئةٍ تُطبخ داخل أسوار مقر الرئيس طبخة القضاء، لكن موعد سكبها ما زال مجهولاً، والتأخير في ذلك قد يكون ناجمًا عن عدم رغبة الرئيس بفتح ملفاتٍ داخليةٍ جديدة مثيرةٍ للجدل، تأخذ وقتًا أو جهدًا على حساب ملفاتٍ خارجيةٍ لها أولوية المواجهة مثل "صفقة القرن".

طبخة داخل أسوار مقر الرئيس قد تخضع القضاء بشكلٍ كاملٍ للسلطة التنفيذية ومراكز القوى الذي يسعون للسيطرة عليه

فحوى الطبخة ومكوناتها غير معروفة، لكن بعض المعلومات والتحليلات التي يتم تداولها في الوسط القانوني تشير إلى أن أهم ما يقترح هو تعديل سن التقاعد للقضاة ليصبح 65 عامًا بدل 70 عامًا، وبذلك يتم التخلص من أكثر من نصف قضاة المحكمة العليا، ويتفكك مجلس القضاء الأعلى القائم، وتصبح الفرصة سانحة لتشكيل مجلسٍ قضائيٍ جديدٍ يحمل صفة المجلس الانتقالي، وقد يوضع على رأسه شخصيةٌ عملت في القضاء سابقًا، وبذلك تضعف حجة أن وضع القضاء لا يعلم به سوى القضاة.

اقرأ/ي أيضًا: سقوط مدوٍ للتعليم القانوني في تعيين القضاة

الأداة السابقة المتوقعة سيفٌ ذو حدين، فمن خلالها قد يخضع القضاء لعمليةٍ جراحيةٍ من شأنها إصلاحه، وقد يخضع بالمقابل لعمليةٍ جراحيةٍ تخضعه بشكلٍ كاملٍ للسلطة التنفيذية ومراكز القوى الذي يسعون للسيطرة عليه، واقتسام النفوذ عليه على غرار التقسيمة التي كانت واضحة المعالم عندما تشكلت المحكمة الدستورية، والخشية الأكبر أن يتحقق السيناريو الثاني كون أن مؤيديه هم الأكثر قربًا من الرئيس وقدرةً على التأثير عليه من مؤيدي السيناريو الأول، فهم على احتكاكٍ وتواصلٍ مستمر به، وقادرين أحيانًا على خلق صلةٍ بين القضاء والأمن كي يتمكنوا من إقناعه بالسيناريو الذي يرغبون به.

القضاء لم يكن طيلة سنواتٍ مضت قضاءً مستقلاً، بل خضع إلى درجةٍ كبيرةٍ لنفوذ السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية منذ أن أُجبر رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق فريد الجلاد على تقديم استقالته طواعية، ثم سُنت سنة تقديم استقالة رئيس القضاء الأعلى مع حلف يمين التعيين، وأصبح  التدخل في الشأن القضائي سلوكًا شبه يومي على مستويات عدة من ضمنها ما شابت بعض التعينات العليا في القضاء من عيوبٍ أضعفت ثقة الجمهور به.

قد نجد بعض القضاة يرفضون ادعاء تدخل السلطة التنفيذية في الشأن القضائي ويصرون أن القضاء مستقلاً. ربما يكون رأيهم صحيحًا فيما يتعلق بقرار القاضي، فبعض القضاة مستقلين بقراراتهم ولا أحد يمكنه إنكار ذلك، وبعضهم يخضعون بتفاوتٍ للتأثير الخارجي أو تأثير القضاة الأعلى درجة، وقد سبق أن أقر القضاة بذلك في أكثر من استطلاع رأيٍ للقضاة أنفسهم، لكن الحقيقة المتعلقة بالجسم القضائي مختلفة، والدليل على ذلك هو تشكيل محكمة الجنايات الكبرى بتاريخ 8 كانون ثاني/يناير 2018 وتعديل قانونها وإلغائه.

إنشاء المحكمة يصنف بأنه شأنٌ قضائيٌ بالدرجة الأولى، ونادي القضاة الذي يمثل غالبية القضاة قال إنه كان ضد تشكيلها وأعلن ذلك في رسالةٍ رسميةٍ وجهها إلى الرئيس، كما أن نقابة المحامين كانت رافضة لتشكيلها وأعلنت بتاريخ 30 كانون ثاني/يناير 2018 رفضها المثول أمام المحكمة إلى أن تم تعديل قانونها بموجب اقتراح قدمه للرئيس أقطاب قطاع العدالة برئاسة مجلس القضاء الأعلى ومشاركة نقابة المحامين، وعُدل القانون فعليًا بتاريخ 29 نيسان/إبريل 2018، ثم باشرت محكمة الجنايات بعملها بمثول المحامين أمامها، واستمر الحال على مدار عامٍ تقريبًا دون اعتراضٍ من أحد باستثناء إعلان الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء في تشرين ثاني/نوفمبر 2018 نيته مراقبة جلسات المحاماة، وباشر فعليًا بذلك في بداية نيسان 2019، وبقي الحال القائم حتى أعلنت مؤخرًا نقابة المحامين أن الرئيس وافق على إلغائها بناءً على مذكرة تقدمت بها النقابة للرئيس، وبذلك نكون قد عشنا خلال عام ونصف أكبر قصة إرباكٍ قضائي.

تشكيل محكمة الجنايات الكبرى كان خيار حكومة رامي الحمدالله التي وضعت كل ثقلها لتشكيلها

تشكيل المحكمة ثم إلغاؤها وفقًا لما أعلنته نقابة المحامين يثير سؤالاً كبيرًا ومهمًا، إذا كانت كل هذه الأطراف خاصة القضاة والمحامين ومؤسسات المجتمع المدني يرفضون تشكيل هذه المحكمة، فكيف تشكلت؟ ومن شكلها؟ ولماذا؟ الإجابة على ذلك بسيطةٌ وغير مخفية، فجميعهم يقرون بل يتداولون تحت الطاولة أن خيار تشكيل المحكمة كان خيارًا لحكومة رامي الحمدالله التي وضعت كل ثقلها كي يتم تشكيل هذه المحكمة، وطوعت لذلك كل أقطاب العدالة، وفي مقدمتهم مجلس القضاء الأعلى الذي أصلاً يمنع القانون إقرار أي تشريع يخص القضاء دون مشاورته، ومن ثم تم تعديل بعض بنوده بالتشاور مع نقابة المحامين التي وافقت في النهاية على القانون المعدل ورفع قرار المقاطعة، وفتحت صفحة جديدة في علاقتها العدائية مع الحكومة السابقة.

اقرأ/ي أيضًا: القضاء والإعلام.. وصراع أباطرة الحكم

باشرت المحكمة أعمالها بشكلٍ طبيعيٍ وسط صمت جميع الأطراف المعنية بالشأن القضائي حتى اليوم الذي أعقب مغادرة رئيس الوزراء السابق رامي الحمدالله كرسي مجلسه، وتجددت خلال نيسان/إبرايل 2019 مطالبات أطرافٍ عديدةٍ من قضاةٍ ونقابة محامين ومؤسسات مجتمعٍ مدنيٍ بإلغاء محكمة الجنايات الكبرى التي عملت على مدار أكثر من عامٍ بهدوءٍ دون أية ضغوط، وأصدرت أحكامًا عالية بحق العديد من المتهمين، ولم يصدر طيلة سنةٍ من عمل المحكمة أي بيان حول احترام هذه المحكمة لضمانات المحاكمة العادلة، وهذا أكبر دليلٍ على أن تشكيلها كان قرارًا للسلطة التنفيذية، والمطالبة بإلغائها تم في أجواءٍ ترغب بها السلطة التفيذية في تقليم أظافر الحكومة السابقة، ويرون هذه المحكمة إحداها، فاشتدت المطالبة بإلغائها، وقبل الرئيس بهذا الإلغاء، وهذا دليلٌ على مدى سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء، بقدر ما يخدم شعار استقلال القضاء مطامح السلطة التنفيذية.

القضاء بصورته الحالية لا يسر عدوًا ولا صديقًا، الكل يبدي عدم رضاه عن واقع القضاء واستقلاله، حتى القضاة أنفسهم يقرون بهذا الواقع. والمطالبة بإصلاحه دعوةٌ يتلقفها أقطاب السلطة التنفيذية، ويجدون فيها مبررًا  لمزيدٍ من الانقضاض على القضاء وتصفية حساباتٍ معه، وإخضاعهم بشكلٍ تام لها، فإصلاح القضاء يتطلب إرادة لإصلاحه، والإرادة لا إصلاحه لا تتجسد فقط بإرادة الرئيس، فإرادة الرئيس التي عبر عنها في أكثر من مرة آخرها حين اجتمع مع مفوضي الهيئة هي إصلاح القضاء ومحاربة الفساد فيه، لكن حين يتم التعبير عن هذه الإرادة يتم ذلك بالطريقة التي تراها الدائرة القريبة منه، فتفرغ من مضمونها الإصلاحي كما حصل حين تشكلت محكمة الجنايات الكبرى، فمشروع قانون تشكيل محكمة الجنايات الكبرى قُدّمَ للرئيس كآليةٍ مقترحةٍ لإصلاح القضاء في شقه الجنائي لتخفيف تراكم القضايا الجنائية، وحين عدل القانون قُدِّمَت أيضًا التعديلات للرئيس بنفس الروح السابقة ولنفس الغاية وتحت نفس المبرر، وحين قُدم طلب إلغاء القانون قُدم للرئيس بنفس المبررات وكلها ذات غايةٍ إصلاحية.

القضاء بصورته الحالية لا يسر عدوًا ولا صديقًا، حتى القضاة أنفسهم يقرون بهذا الواقع

حتى لجنة تطوير القضاء التي خولها الرئيس بتقديم تصور لإصلاح القضاء، وهي من قدمت فعلاً تعديلات قانون محكمة الجنايات الكبرى، تنازعت الصلاحيات بينها أكثر من عملها على إصلاح القضاء، وتصرف كل عضو فيها من الجهات الرسمية كأنه مخلد، وعليه أن ينتزع صلاحيات لصالحه أكثر مما يهمه إصلاح القضاء، مع أن غالبيتهم غادروا مواقعهم فقط بعد شهورٍ قليلةٍ من تقديم مقترحهم للإصلاح، ولم يتم الاستماع إلى توصيات اللجنة حتى الإيجابية منها، وأُجهِضَت جهودها كافة في اليوم الذي سلمت فيه مقترحاتها.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟

كي يتحرر السيد الرئيس من أية ضغوطاتٍ بشأن إصلاح القضاء، وكي لا تتكرر تجربة محكمة الجنايات الكبرى المريرة، أرى من الضروري أن يستمع الرئيس إلى آراءٍ واسعةٍ بشأن القضاء، واقترح عليه في هذا الشأن، وقبل أن يتخذ أي قرارٍ جديدٍ بشأن القضاء، أن ينظم له جلسة استماعٍ حول القضاء، وأن يُدعى إليها قضاةٌ ومحامون وممثلون عن مؤسسات مجتمع مدني، وقطاعاتٍ أهلية، وأن يستمع إلى آرائهم ومقترحاتهم من أجل إصلاح القضاء، وأن يوازنها مع ما يقدم له من آراء من الجهات الرسمية.

أنصح أن يستمع إلى كل الآراء المتعلقة بالقضاء الرسمية وغير الرسمية منها، وأن لا يخشى الاستماع إلى بعض الآراء التي يتم شيطنتها من قبل البعض كأنها تخدم أجندة خارجية. أنصح ان يستمع خلال جلسة الاستماع إلى آراء قضاة مثل القاضيين عبدالله غزلان وإيمان ناصر الدين، وأن يستمع إلى أصواتٍ من جمعية نادي القضاة بتوجهاتها المختلفة، وأن يستمع الى آراء قضاة سابقين مثل عيسى أبو شرار وثريا الوزير وغيرهما، فهم على معرفةٍ حقيقيةٍ بوضع القضاء، وأن يستمع في هذه الجلسة إلى رأي بعض المحامين المستقلين مثل شكري النشاشيبي وعلي السفاريني وغيرهم.

الرئيس ليس رئيسًا لفرقةٍ أو جهازٍ أمنيٍ أو حزبٍ سياسيٍ وحده دون غيرهم، حتى يدلون هم وحدهم بدلوهم في ما يتعلق بإصلاح القضاء

أنصح أن يستمع الرئيس إلى رأي نقابة المحامين والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالشأن القضائي، ويستمع بعنايةٍ إلى مخرجات المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء الذي ينظمه الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء والمقرر عقده في 8 تموز/يوليو القادم. أنصح أن يستمع إلى كل هذه الأصوات معًا وليست فرادى، وأن تكون شهاداتهم في جلسةٍ تشارك فيها أيضًا كل الأطراف الرسمية التي يتوجب عليها أن تعلن على الملأ عن رؤيتها لإصلاح القضاء، وأن تكون هذه الجلسة علنية ويتم بثها مباشرة عبر شاشة التلفاز الوطني، فخلال هذه الجلسة لن ينطق أحدٌ كلمة غير الحقيقة مهما كانت الزاوية التي يراها المتحدث.

هذه الأصوات كي يتم الاستماع إليها لا تحتاج لوقتٍ يزيد عن ساعتين يستمع فيها الرئيس إلى الكل،  وفي مثل جلسة الاستماع هذه تتحقق فكرة توازن الآراء والمعلومات المتعلقة بإصلاح القضاء، ومن ثم يمكن للرئيس أن يرسم خطته من أجل إصلاح القضاء.

أتمنى هذه المرة أن يتمهل السيد الرئيس قبل اتخاذه أي قرارٍ يتعلق بالقضاء، وأن يستمع للجميع قبل أن يبلور رؤيتة لإصلاح القضاء، فاستقلال القضاء سيدي الرئيس هو مصلحةٌ للمجتمع قبل كل شيء، وهو الخيمة التي يمكننا أن نحتمي بظلها مهما كانت شدة الحر، ومن حق المجتمع أن يسمع رأيه لك، فالرئيس هو رئيسٌ لكل البلاد، وليس رئيسًا لفرقةٍ أو جهازٍ أمنيٍ أو حزبٍ سياسيٍ وحده دون غيرهم، حتى يدلون هم وحدهم بدلوهم في ما يتعلق بإصلاح القضاء، فمثل هذه الجلسة هي حقٌ للجميع.


اقرأ/ي أيضًا:

اقتناص الوظائف العليا في دولة يحدها حزب واحد

"القضاء" و"التنفيذية".. جولة جديدة في صراع الاستقلالية

انقسام القضاء يسلب أمهاتٍ وآباءً حضانة أطفالهم