41 عامًا مضت منذ أن خطَّ ثلاثة فدائيين أربع إشارات حمراء على أحد جدران مدينة نابلس، كانت رسالة مفادها "وصلنا بسلام"، لطمأنة مسؤولي تنظيم فتح في سوريا بأنّ "خلية الكرمل" وصلت للوطن المحتل، وجاهزة للعمل.
بدأت "خلية الكرمل" العمل عام 1977، كردّ على استشهاد لينا النابلسي وغيرها من الشهداء.. من هم أفراد هذه الخلية، كيف وماذا عملوا، وكيف كُشفوا واعتقلوا؟
بدأت "خلية الكرمل" العمل عام 1977، كردّ على استشهاد لينا النابلسي وغيرها من الشهداء، وفق ما يُرجّح علّام حنّون، حيث يُشير إلى أنّ فكرة التدريب العسكريّ في سوريا، تولّدت كمحاولة للردّ على ما يرتكبه الاحتلال. عن ذلك، يقول حنون الذي كان يتيم الأب والأم وقتها، إنّه سافر إلى الأردن بعمر 16 عامًا، ومنها إلى سوريا حيث التقى بجموعة شبّان من نابلس، بينهم ابن عمّه خالد، وصديقه مصطفى الأسمر، وبعد عدّة تدريبات مكثّفة شكّلوا خليّة "الكرمل" نسبة للجبل المعروف في حيفا.
اقرأ/ي أيضًا: عدنان الغول.. نصف المقاومة الفلسطينية
ثائر، رعد، وفريد، ثلاثة أسماء حركيّة اختارها "علام" ورفاقه، بالاتفاق مع مسؤولي تنظيم فتح في سوريا، لحماية أمنهم، وحفظ معلوماتهم، وكعنوان لرسائل "صوت العاصفة" التي أصبحت تأتيهم بين فترة وأخرى لتوجيههم وإرشادهم للعمل، يقول حنّون أو ثائر بحسب اسمه الحركيّ، كان النداء الأول، بعد فترة قصيرة من وصولنا، عبر أثير صوت العاصفة: "ثائر ورعد وفريد، الهدية وصلت ونحن بالانتظار".
رعد كان الاسم الحركيّ لخالد (ابن عم علام)، أمّا فريد فهو الاسم الحركيّ لمصطفى الأسمر نسبة للشهيد فريد الدردوك الذي استشهد عام 1967، وكانت الهدية التي وصلت، كما قالت الرسالة الصوتية عبر أثير "صوت العاصفة" هي المواد الأولية لصنع "عبوة مفخخة"، وضعت في مكان متفق عليه سابقًا، تحت صخرةٍ عُلّمت بإشارة برتقاليّة اللون في أحد مقابر المدينة.
بعد استلام الثلاثة للنداء عبر الإذاعة، ذهبوا لتفقّد "الهدية" من "النقطة الميّتة" المتفق عليها، وقد كانت قرب مسجد في حيّ خلة العامود داخل مقبرة صغيرة بنابلس. بعد ذلك قرروا تنفيذ عملية في سوق الخضار بنتانيا، حيث جهّز "علام" تركيب المواد المتفجرة، ووضعها في علبة حليب حديديّة "نيدو" بوزن 6 كيلوغرامات.
اقرأ/ي أيضًا: نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا
وبعد مراقبة ورصد للهدف، توجّهوا للمكان، وفي الطريق فوجئوا بحاجز طيّار، فنزل مصطفى الأسمر، الذي كان يحمل العبوة، من السيارة وبقي ينتظر في مطعم قريب، بينما سبقه "خالد" إلى نتانيا، ونتيجة لذلك حصل خلل في التوقيت المحدد لتواجد عناصر الاحتلال، ولهذا السبب اضطروا لتغيير مكان العبوة ومكان الرصد لمسافة أبعد بـ50 مترًا، وعادوا إلى مدينتهم سالمين.
تلت تلك العملية، يقول "خالد/ رعد"، تحركات فورية وإلقاء قنابل يدوية على دوريات جيش الاحتلال الذي كان يتواجد في منطقة دوار الشهداء في المدينة، وكان يتم استلام القنابل والأوامر عن طريق حلقة وصل بين أفراد الخلية ومسؤولي التنظيم، وكان مصطفى الأسمر أو "فريد"، وحده من يتعامل معه.
"وفيما كان (مصطفى/ فريد) يشير إلى موقع "الإشارات الحمراء" مستعيدًا ذكرياته حول تلك الفترة، يقول إنّ شخصًا ما حضر إلى منزلهم بحجّة العمل في البناء، وعرّف عن نفسه لوالد "فريد" بأنّه من قرية بيت أمرين. وعندما قابله بادر بالقول: "كيف حالك يا فريد" حيث تظاهر الأخير بعدم سماعه الاسم، لكنّ الأول أعاد تكراره، وأضاف عليه: "فريد، لابس بنطلون أسود وقميص أحمر"، وهي كلمة سريّة متفق عليها أيضًا. حينها ردّ عليه مصطفى/ فريد بماهيّة المطلوب منهم، فأعلمه ذاك الشخص بقدوم رسالة عبر الإذاعة، تطالبهم بتنفيذ المطلوب.
"أخبرت علّام"، يقول "مصطفى/فريد" لكنّه تردد في البداية لعدم معرفته به، قال لي أنا لا أثق بأي شخص خارج دائرتنا، لكنني التقيت به مرّات أخرى، وقررت أن أكمل ما بدأنا به، فكانت العملية الثانية، وضعت المادة في حافظة طعام حديد محكمة الإغلاق، وذهبت إلى "كفار سابا"، وضعتها ثم عُدت إلى نابلس، وعند عودتي التقيت بذلك الرجل ودون أن يسأل عن تفاصيل، قال "يعطيك العافية"، وسألني عن علّام باسمه الحركي "ثائر"، وقلت له لا أعلم عنه شيئًا، واستنتج لاحقًا أنّ علّام لم يثق به.
اقرأ/ي أيضًا: "تقزيم الآخر".. عن الهوس الأمنيّ في السجون
في العملية الأخيرة عام 1978، يتابع "مصطفى/ فريد"، استيقظت فجرًا، وذهبت إلى المقبرة لأخذ العبوة المُخبّأة، ركبت الحافلة المتوجهة إلى طولكرم ومنها إلى نتانيا، جلست في المقعد الخلفي، أوقفنا الجنود عند الحاجز، صعد أحدهم، ولسوء الحظ أمرنا جميعًا بالنزول، كنت قد وضعت في حافظة الطعام التي تحوي العبوة "كفته وبندورة" قبل ليلة، وخبّأتها في المقبرة، لمسها الجندي، وقال لي ماهذا "كان يتكلم بالعربي"، قلت له طعام، وعندما نظر إليها شكّ فيها، فقد كان شكل الطعام مريبًا، لبقائه في المقبرة طيلة الليلة السابقة، فأبعد الطعام قليلًا فرأى العبوة تحته، فأخذ يصرخ بالعبرية بصوت عال، فتجمّع حولي جنود بأعداد كبيرة، وجاء خبير متفجّرات لفحصها، ثم اعتقلوني وبدأ الضرب ينهال عليّ من كل مكان، وأخذوني مكبلًا بسيارة عسكرية.
في ظهيرة ذلك اليوم، يقول "خالد/ رعد": "كنت في المقهى، وكان علّام في حيفا، وكنّا ننتظره لنقرر بخصوص إحدى العمليات، وكان "مصطفى/ فريد" قد أخبرني مسبقًا بأنّه لن ينتظر، وسيتوجّه إلى الداخل لوضع العبوة، لكنّي لم أذهب معه، لظنّي بأنّه لا يعني ما يقول.
بعد ساعات، يضيف "خالد/ رعد" جاء أحدهم وأخبرني بأنّه رأى مصطفى معتقلًا عند الحاجز، لم أصدّق ما سمعت، فمصطفى صديقي المقرّب، أصبت بالتوتر والقلق وأردت أن أحذّر علّام بأي وسيلة، ذهبت إلى منزل شقيقتي وكنت أشعر أنّ تفكيري قد شُلَّ ولم أستطع فعل شيء سوى انتظار الأخبار من الإذاعة.
في الليل، يتابع خالد، داهمت قوات الاحتلال المنزل لاعتقالي، سألني الضابط عن علّام، فأخبره شقيقه بأنّه يعمل في عسفيا وهي قرية في حيفا، وطلب جواز سفري فقلت له إن جواز سفري في الأردن، فقال لي كيف ذهبت إلى الأردن، وعندما فتّشوا المنزل وجدوا بطاقتي التي دخلت بها إلى سوريا ولبنان، وكُنّا حينها نستخدم بطاقات موحدة نعبر عليها، دون الحاجة لجواز سفر، حيث كنّا ندخل سوريا ولبنان على أننا أردنيون. نقلوني بعدها إلى سجن نابلس، وكان الطقس باردًا جدًا.
"علام/ ثائر" الذي اعتقل من قرية عسفيا في الداخل المحتل، يقول في روايته للعملية الأخيرة: "كان من المقرر أن نقوم بتنفيذ عملية إحياءً لذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية. صنعت العبوة، وخبّأتها عند قبر أمي في المقبرة الغربية، أخبرت "مصطفى/ فريد" عن مكانها، وذهبت إلى حيفا، وفي تلك الليلة اعتقلتني قوات الاحتلال، لم يخطر ببالي أن يكون الأمر متعلقًا بالخلية وأنها كُشفت، أخذوني ليلتها إلى سجن حيفا، ونُقلت في اليوم التالي إلى سجن نابلس، وبدأ التحقيق معي فور وصولي.
يقول "علام/ثائر"، وضعوني في الزنازين، ولم يكن لديّ تجربة سابقة في الاعتقال أو التحقيق، وظننت أنني سأخرج من الزنزانة، ولكن عندما أخذوني إلى غرفة التحقيق وجدت طاقمًا كاملًا من الضباط، أخبروني أنّ "خالد/رعد" و"مصطفى/فريد" معتقلين أيضًا، وأنّهم اعترفوا بكلّ شيء، ويريدون سماع القصة منّي، وهكذا فعلوا معهم، عندما واجهوني بهم صُدمت برؤيتهما، تذكرت ما قالوه لنا في سوريا "في حال تم كشفكم تذكروا أنّ المخابرات الإسرائيلية سيستخدمون معكم أسلوب الإيقاع بينكم".
يقول "مصطفى/ فريد": "خلال التحقيق معنا ومن خلال مخابراتهم، ربطوا علاقتي بـ"خالد" و"علام" وسفرنا في تلك الفترة سويًا، ووجدوا مع خالد صورًا مشتركة، بداية أنكرت سفري مع خالد وقلت له ربما صدفة تواجدنا سوية في الحافلة ذاتها، تعرضت لتعذيب وضرب لا يمكنني وصفهما، كان التحقيق معي لفترات مكثفة ومتلاحقة، كانوا يريدون معرفة مكان تدريبي وأسماء من تعاملت معهم، ولكثرة التعذيب وقلة الخبرة، واعتقالي أثناء وجود العبوة معي لم أستطع الإنكار.
صمت مصطفى فجأة، ثم قال وهو يضحك: "أذكر في إحدى جلسات التحقيق أصابتني نوبة ضحك عندما قال لي المحقق "هل تنكر أننا أمسكنا المتفجرات معك"، فلم أستطع إنكار ما هو مثبت عليّ".
اقرأ/ي أيضًا: هدده المحققون بزوجته و"قطعوا خلَفه".. ولم يرضخ!
تفرّق رفاق العمل العسكري، وكانت لقاءاتهم فقط في قاعة المحكمة، حيث صدر الحكم أخيرًا في 13/6/1978، حُكم "علام/ثائر" 18 سنة، و"خالد/رعد" 15 سنة، أما "مصطفى/فريد" فحكم مدى الحياة، ثم نُقلوا إلى سجن بئر السبع.
تفاصيل كثيرة بقيت مبهمة وغير واضحة، وبعضها اتضح بعد فترات طويلة، فمثلًا بعد 7 أشهر من الحكم، يقول "مصطفى/فريد"، استدعيت إلى مركز تحقيق سجن نابلس، وقال لي الضابط "سيمرّ أمامك عدة معتقلين، أريد منك أن تتعرّف على الشخص الذي كنت تتعامل معه، (يقصد حلقة الوصل)، وكان قد قُبض عليه عند منطقة بئر يعقوب في نابلس يضع عبوة ناسفة، وأرادوا التأكد أنّه من نفس الخلية، فأنكرت معرفتي، فمارسوا عليَّ أبشع أنواع الضغط، وبقيت مصممًا على كلامي، التقيت به فيما بعد في سجن بئر السبع، لم أكن أعرف اسمه الحقيقي، حين سألته عنه، وإن كان حقًا من بيت امرين كما قال لوالدي في ذلك اليوم، ضحك وقال لي أنا "يوسف عامر" من كفر قليل، ومنذ ذلك الحين أصبحنا أصدقاء حتى وفاته قبل عامين.
أمضى أفراد الخلية، علام، وخالد، ومصطفى، ويوسف ما يقارب 7 سنوات ونصف في المعتقل، إلى أن وردت أسماؤهم ضمن صفقة تبادل الأسرى، صفقة الجليل "القيادة العامة".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | تفاصيل ظلّت مخفيّة عن عمليّة "سافوي"
وبالعودة الى أرشيف جريدة القدس، يتصدّر الجريدة في عددها صباح يوم الثلاثاء 21 آيار 1985 خبر صفقة عملية الجليل، التي جرت بين الاحتلال الإسرائيلي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة"، وصور الأسرى المحررين، والتي يروي تفاصيلها الدكتور "مجدي سالم"، الباحث والخبير في شؤون الحركة الأسيرة، بقوله: "وقعت اتفاقية تبادل الأسرى في جينيف في 21 نيسان 1985، وجرت عملية التبادل يوم 20/5/1985 تم بموجبها إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين الثلاثة "العريف حازي شاي وهو قائد دبابة وقع في الأسر في معركة السلطان يعقوب بتاريخ 11/6/1982 والجندي يوسف غرون ونسيم سالم اللذان أسرا في منطقة بحمدون بتاريخ 4/9/1982" ومقابل الإفراج عن هؤلاء الثلاثة أطلقت إسرائيل سراح 1150 معتقلًا فلسطينيًا.
اغتنم الثلاثة فرصة السجن للتعليم، ما ساهم في زيادة ثقافتهم بعد الإفراج عنهم، والانخراط في أعمال الانتفاضة الأولى 1987. يقول "علام/ثائر"، بعد الحادثة الشرارة، التي استشهد فيها عمال على حاجز ايريز الاحتلالي 8 كانون الأول 1987، تعاظمت الأحداث واستشهد في نابلس "ابراهيم العكليك، وأعلن الاستنفار بمظاهرات كبيرة وحركة جماهيرية، وأصبحت تصدر نداءات وبيانات القيادة الوطنية الموحدة، وكان دورنا توجيه وضبط التصرفات وتوحيد الصف الوطني، وأن نكون مرآه عاكسة لتنظيماتنا. كانت الانتفاضة الأولى انتفاضة شعبية، ومواجهات حجارة، وكان هناك لجان تنسيق مع المخيمات والريف وإضرابات موحدة في كل الضفة الغربية، وكان التنسيق من خلال اجتماعات سرية، والعمل بحذر كبير، ولكنني اعتقلت في نهاية الانتفاضة الأولى، وحكمت لمدة 3 سنوات في العام 1990.
"خالد حنون" يتحدث بأسى عن حال "الفدائيين القدامى": "نحن الأسرى والمحررين خُذلنا في نهاية الانتفاضة الأولى، فمنذ بداية أوسلو وافرازاتها، والقيادة السياسية للشعب الفلسطيني لم تراع من كان لهم الخبرة والدور في العمل النضالي،ورغم أننا شكَّلنا رابطة للاسرى القدامى لحفظ حقوقنا وتنظيم عملنا، إلا أنه وبعد دخول السلطة حُلت هذه الرابطة ولم تستمر.
"علام حنون"، يُرجع ما حدث من قتل لروح التضحية للمواطن، حسب قوله إلى "اتفاقية أوسلو"، إضافة للانقسام الفلسطيني الفلسطيني، "خذلنا جميعًا، أشعر بحزن لما آلت إليه أوضاعنا، لقد انحدرنا إلى مستنقع كبير، وأنا هنا لا أقلل من احترامي للقادة، ولكنّهم لم يستثمروا الانتفاضة بشكل صحيح، وسمحوا لأشخاص بالتسلق على أكتاف الثوار مرتدين "الكرافات" ليكونوا متحدثين باسمنا.
مصطفى الأسمر وأثناء مرورنا بالمقبرة الغربية، أشار بيده إلى قبر الشهيد "فريد الدردوك" "هناك قبر الشهيد الذي سميت باسمه، بجانب قبره كنت أخبئ العبوات، لم أندم على تلك التجربة".
اقرأ/ي أيضًا:
عملية بيت ليد.. الأقسى في تاريخ جيش "إسرائيل"