في مناطق الحروب، وبعد أن تُلقي الطائرات العسكرية حمولتها من القنابل على المدنيين، تعود ذات الطائرات العسكرية في مناوبة ثانية، إنسانية، وتُسقِط طرود الأغذية والمُعَلَّبات فوق نقاط القصف، ثم يدور حوار بين المدنيين وهم يفتحون طرود المساعدات: "القنابل التي ألقوها تقتل.. هل المُعَلَّبات التي ألقوها مُسمَّمة وتقتل هي الأخرى؟".
وتبدأ المشاعر المتناقضة بين الحاجة والحَذر..
ومثل أي حوار مصيريّ على الأنقاض، يكون مملوءًا بـ اللايقين، يخوض الفلسطينيون يوميًا نقاشات عن جدوى الدعم الأجنبي المقدّم لوسائل إعلام محلية، ولجمعيّات غير ربحية، خاصة بعد تنامي هذه الظاهرة لتصبح مصدر دخل مربح لإعلاميين، لتصل حسب إحصائيات 2014 إلى 4 الآف جمعية غير ربحية، يحتل الإعلام منها نسبة غير قليلة، وجميعها قائمة على التمويل الأجنبي الصريح، صارت مصدر رزق لإعلاميين كثر، وهو ما اصطلح على تسميته بـ "إعلام الأسرة السعيدة" لأن هذه الوسائل تكون بالغالب مصممة على مقاس فرد واحد، بالإضافة لأبنائه وزوجته والمقربين، ما يضمن له الربح الصافي. مؤمنًا بقدرته وحده على تطويع المصطلحات الوطنية؛ لتصبح "اقتحامات" المستوطنين لباحات الأقصى تسمى "زيارات"، ونشاطات المقاومة، تصير تهديدًا للسلم وطاردة للاستثمارات، أو طريقًا يؤدي إلى المجهول!
اقرأ/ي أيضًا: فلسطين في عيون أهل بكين.. يا للهول!
هذا العام تقدّم زميل إعلامي لشاغر وظيفي لدى إحدى هذه المواقع المُموَّلة، وطلب منه القائم على الموقع صورة عن بطاقة الهوية، وعندما استفسر زميلنا عن السبب، إذ أنه اعتاد في رحلة معاناته للبحث عن عمل أن يطلبوا منه شهادات التخرج، أو السيرة الذاتية والخبرة، إلّا أن الرّد جاء مباغتًا وصريحًا على لسان المدير:
- رح نرسل صورة الهوية ونعمل عليك فحص أمني.
- أين؟
- للسفارة الأمريكية.
وعلى الرغم من ذهول المتقدِّم من ذلك الطلب الغريب، إلا أنّه وافق وأرسل له نسخة عن البطاقة، وربما بدافع الفضول ظلّ ينتظر الردّ ثلاثة أشهر، ولم يحصل عليه، علم بعدها من تلقاء نفسه، وبعد تهرُّب المدير من الإجابة أنّ "رد الجواب هو الجواب"، ولم يستغرب زميلنا أن يُرفض أمنيًا، لأنّه أمضى سنوات في معتقلات الاحتلال، ومن ثم فإنّه مصنّف على أنه "إرهابي" بالوصف الإسرائيلي، وتلقائيًا بتوصيف الحليف الأمريكي؛ المُموِّل المالي لتلك "الدكانة" الإعلامية.
هل يوجد هكذا إعلام في فلسطين؟
يوجد في كل أنحاء الوطن العربي، إذا لاحظنا أنّ جميع الصراعات صارت تبدأ بالكلمة وتنتهي بها، ولكن لكل دولة خصوصيتها حسب برامج المموِّلين، مثلًا في دول عربية يمكن أن يكون التمويل منصبًّا على دعم التحرر الاجتماعي؛ المرأة، المساواة، مساندة المثليين، كشف الفساد.. ما حوّل بعض تلك المنصّات الإعلامية لتصبح الفئة الوحيدة الكاشفة للفساد الحكومي، وبناءً عليه تم حظرها في تلك البلدان، بعدما تربعت على عرش الصحافة الاستقصائية.
بعض الجهات الإعلاميّة المموّلة أجنبيًا، لديها قدرة خارقة على تطويع المصطلحات الوطنية!
ولكن خصوصية فلسطين كأرض محتلة، واحتكار وظائف الإعلام الحكومي للموالين، والحساسية التي ينظر بها المجتمع لثقافة "مد اليد" للأجنبي، تحت أي مسمى كان، جعل فئة من ذوي الطموح الشخصي، يتسللون في زحمة المدن لطرق أبواب السفارات والمؤسسات الأجنبية، ومن ثم وصولهم لمنابع الدعم تحت شعارات تقدُّمية وأهلية بمواصفات الداعمين، وأنشأوا أخيرًا مراكز للأبحاث والإعلام على طريقة "الذي يدفع للزّمار..
اقرأ/ي أيضًا: كتيبة إسرائيلية للتصوير فقط.. احذروا!
يُبرِّر رأي نخبوي (حديث الولادة) في فلسطين، بأن الإعلام ليست وظيفته أن يأخذ دور الفصائل وقوى العمل الوطني، وهي وجهة نظر من الممكن مناقشتها، ولكن ما لا يمكن تجاوزه منذ القرن التاسع عشر إلى الآن هو دور "الميديا" كسلطة رابعة، تقوم بدور الرقيب على السلطات الثلاث في المجتمع؛ الحكام ورجال الدين والشعب.
فالإعلام الموفِّر للطاقة بتخلِّيه عن الدور الوطني أو تحشيد الرأي العام، من المفترض أن يصرف جهده الكامن في الشأن المجتمعي، وذلك بتفرغه لأيٍ من القضايا المحلية والإنسانية والشعبية، وهو ما لا ينطبق على إعلام لم يشغل باله بغير المردود المادي. وتجاهله للفساد المالي والإداري، الحكومي أو الخاص، مثل تجاهله للحِراك الافتراضي الذي قام به مئات الآف من الفلسطينيين ضد شركات الاتصالات، والمطالبة بتسعيرة عادلة للمكالمات وخدمات الانترنت، وعلى الرغم من أنّ الحراك شغل الشارع الفلسطيني لشهور، إلّا أن التغطية الإعلامية كانت تساوي صفرًا. بل إن أحد أهم المواقع التي تدّعي "اليسارية" ومحاربة التغوّل الرأسمالي والإمبريالي، وتتخذ من تحرير الوطن "لوجو" لسياساتها التحريرية، قامت بحملة دفاعية صريحة عن تلك الشركات، وكأنّ تمويل العدو "الإمبريالي" لها لم يعد يكفي، فصارت تتكىء في وقت الأزمة على الإعلانات.
المتابع لكبرى وسائل الإعلام الممولة أجنبيًا، يجد الكثير من المشتركات بينها وبين الإعلام الرسمي؛ ضخامة المنصرفات، ضعف التأثير، والانسجام بالموقف
المتابع لكبرى وسائل الإعلام الممولة أجنبيًا في فلسطين، مع استثناءات لا تكاد تذكر، يجد الكثير من المشتركات بينها وبين الإعلام الرسمي؛ ضخامة المنصرفات، ضعف التأثير، والانسجام بالموقف، حتى لو رأى فيها المواطن البسيط نوعًا من الموضوعية والاستقلالية، ولكنّها استقلالية بالمظهر، مع تقاطع جوهري. وبعيدًا عن العناوين المتمردة، فمن الصعب أن تجد على صفحاتها تحقيقًا واحدًا عن فساد ماليّ، أو إساءة استخدام السلطة، أو الواسطة...
قد تقرأ عنوانًا عريضًا لمقال عن "استشراء الفساد"، ولكن المتن فيه أجوف، خالٍ من الأرقام، والفاعل مبني للمجهول، وكأنّ المواد رُسّت للتنوع وملء الفراغ. ولكنّ البراعة تكمن في التشويش على القضايا الوطنية المهمة؛ ففي الوقت الذي دعت فيه الفصائل والقوى الوطنية لمظاهرات ضد زيارة "كوشنير" الأخيرة لرام الله، قد تُستخدم كورقة ضغط شعبي وإعلامي على الوفد الأمريكي، كانت إحدى المحطات الإذاعية، تغطي على الهواء مباشرة لمدة نصف ساعة وجود مطب مزعج على مدخل أهم شوارع العاصمة رام الله!
حسنًا.. هل قلت العاصمة رام الله؟ هم قالوا. وما بين إعلان صاخب وأغنية، كان مذيع الفقرة الصباحية يلهث وهو يتصل بالمسؤولين، ويتسجوبهم، على الرغم من مقدرته على تسوية أية قضية باتصال تلفوني من تحت الهواء، أو من تحت الطاولة. ومن لا يؤمن بالصدف، قد يسمي هذه الإثارات المصطنعة والهامشية، بمحاولات لصنع رأي عام بديل عن الوطني، وتصعيدًا لقضايا هامشية في وقت الذروة، تحمل من الفردية أكثر مما تحمله من الهم الجمعي، قال عنهم فرانز فانون: إن البرجوازية المستعمِرة، حين تدرك عجزها عن الاستمرار في السيطرة على البلدان المستعمَرة، تقرر أن تخوض معارك خلفية، في ميدان الثقافة، والقيم، والتكنيك.
اقرأ/ي أيضًا:
فضيحة المهندسة أم هندَسةُ الفضيحة؟