تستدعي المشاهد المذهلة لحراك الاحتجاجات في جامعات النخبة الأمريكية لحظات فارقة أخرى في تاريخ الحركة الطلابية الأمريكية. ولا يقتصر هذا الاستحضار على مشهد الاحتجاج بل يشمل أيضًا نوعية المشاركة وتنوّع المشاركين، بالإضافة إلى ردّة الفعل العنيفة من قوات الأمن المحلية والقوى والتيارات الرجعية هناك بالإضافة لمحاولة شيطنة المحتجين وتوجيه أفظع الاتهامات لهم، بما في ذلك معاداة السامية، حيث شارك هذه المرة سياسيون كبار من الحزب الجمهوري وعلى رأسهم رئيس مجلس الشيوخ مايك جونسون في الهجوم المنظم على الطلاب.
نحن بصدد تحول إستراتيجي في أهميّته، ونقلة نوعية في الموقف الشعبي الأميركي من القضية الفلسطينية.. إنّها مفارقة لافتة وصفحة جديدة من تاريخ كتبه ويكتبه جيل من الشباب أدرك أهميّة وقوّة صوته وقدرته على صناعة التاريخ إذا ما اختار ذلك
وفرضت الاحتجاجات نفسها على المشهد السياسي برمته بما في ذلك على الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي اضطر للتعليق على الأحداث التي تمسُّ قاعدته الانتخابية من الطلبة والشباب والأكاديميين التقدميين، ما يفسّر إدانته لمعاداة السامية المزعومة في الاحتجاجات والقول بأن إنكار معاناة الفلسطينيين في غزة أمر غير مقبول أيضًا.
كولومبيا جامعة مرموقة أكاديميًا ولا يحظى بالانتساب لها سوى 4 في المئة من مجموع المتقدمين بطلبات الانتساب، أي أنها جامعة لصفوة العقول في الولايات المتحدة الأميركية وتعتبر واحدة من أهم وأرقى الجامعات هناك. ومن المناسب أن تشكل جامعة كولومبيا نقطة البداية لحراك طلابي وصل لحرم أكثر من ثلاثين جامعة مميزة في البلاد حتى الآن، حيث كانت كولومبيا مستقرّ المفكر الفلسطيني الأشهر في التاريخ المعاصر (إدوارد سعيد) ونقطة البداية في الأثر العالمي العميق لفكره ونقده وتشريحه للفكر الاستشراقي، والعقلية الاستعمارية التي يحتج طلاب كولومبيا ضدها اليوم، فضلًا على مساهماته المهمّة في التعريف بالسردية الفلسطينية والحق الفلسطيني الثابت بالتحرر.
بدأ الاحتجاج عندما قام مئات الطلبة الذين ينتمون لخلفيات عرقية ودينية مختلفة بإقامة خيام اعتصام في حرم الجامعة لمطالبة إدارة جامعة كولومبيا بسحب استثماراتها من "إسرائيل" احتجاجًا على حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني في غزة ومنظومة الاستعمار والأبارتايد الذي تديره ضد الفلسطينيين منذ 75 عامًا. المفارقة هي أن نعمت شفيق، رئيسة الجامعة؛ مصرية الأصل، قامت بفصل الطلاب واستدعاء الشرطة، الأمر الذي دفع بعدد ضخم من أساتذة الجامعة للاحتجاج والتعرّض للاعتقال أيضًا، وشكّل هذا المشهد القمعي الرجعي شرارة لحراك طلابي متعاظم في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية انضمت له أيضًا جامعات في فرنسا وأستراليا ودول أخرى.
الاحتجاجات التي تشهدها الجامعات الأميركية الآن للمطالبة بوقف الحرب على غزة، تتكئ على إرث طويل من الاحتجاجات الطلابية التي غيّرت مجرى التاريخ في الولايات المتحدة الأميركية
وتتكئ الاحتجاجات الطلابية الحالية على إرث طويل من الحراكات والاحتجاجات الطلابية التي غيّرت مجرى التاريخ في الولايات المتحدة الأميركية وتخللها احتلال مباني في الجامعات في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. آخر هذه الاحتجاجات الكبرى انطلق أيضًا من جامعة كولومبيا في نيسان/ ابريل 1985 واستمرت ثلاثة أسابيع تخللها إغلاق مبنى داخل حرم الجامعة. معركة قضائية انتهت بفضّ الاعتصام وانصياع مجلس أمناء الجامعة بعدها بأشهر معدودة للمطلب الرئيس بسحب استثمارات الجامعة من نظام الأبارتايد والتي وصلت لحوالي 33 مليون دولار في حينه. ويعتبر ذلك القرار من قبل جامعة كولومبيا أول حجر من الدومينو الذي أدى إلى وقف الدعم لنظام الأبارتايد ورفع الغطاء السياسي عنه من قبل الولايات المتحدة وسقوط ذلك النظام العنصري بعدها بسنوات قليلة.
ويتذكر السياسيون الأمريكيون جيّدًا أن الاحتجاجات الطلابية ضدّ الحرب في فيتنام كان لها أثر عميق في عزل الشركات المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأمريكية وطرد وكلاء التجنيد للجيش الأمريكي من الجامعات، ما أدى إلى إنهاء الحرب بعد أن فقدت شرعيتها بنظر الرأي العام الأمريكي. ويتذكرون أيضًا أنّ الاحتجاجات الطلابية في الجامعات لعبت دورًا محوريًا في تشكيل بذور حركة الحقوق المدنية التي نجحت في تغيير قوانين الفصل العنصري ضدّ الأمريكيين من أصول إفريقية، وهي الحركة الشعبية التي رسمت معالم عقد اجتماعي وسياسي مختلف جوهريًا عما كان سائدًا، وهو الأرضية التي انطلقت وتنطلق منها كل الحراكات التصحيحية ضد العنصرية في الولايات المتحدة، بما في ذلك حراك Black Lives Matter الذي قاد مسيرات مليونية عام 2020 مناهضة لعنف أجهزة الشرطة ضد السود والأقليات في الولايات كافة.
هذه الذاكرة السياسية الجمعية في الولايات المتحدة الأمريكية واليقين بأن القضايا التي يتم تبنيها من قبل طلاب الجامعات تفرض نفسها على صانع القرار الأمريكي، وعادة ما تنتهي بتغيير هام وتاريخي في السياسات المتبعة. لهذه الأسباب كلها، عمدت حكومات إسرائيلية متعاقبة ومنظمات صهيونية يمينية وبشكل استباقي على تجريم الخطاب المناصر للقضية الفلسطينية والمطالبات بسحب الاستثمارات في "إسرائيل" وفرض العقوبات عليها.
وبالرغم من بعض النجاحات التشريعية في هذا المجال وتضييق الخناق على النقابات والحراكات الطلابية، بما فيها مجموعة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، إلا أن عمل هذه المجموعات الطلابية استمر. وقد شكّل هذا الجهد الواعي الأرضية الصلبة للحراك الطلابي والجماهيري المناصر لفلسطين ممثلًا بتحالف عريض يضم مجموعات تقدمية مختلفة أبرزها منظمات يهودية غير صهيونية تشارك بشكل لافت وفعّال في احتجاجات الجامعات جنبًا إلى جنب مع مجموعات طلابية عربية وفلسطينية وتجمُّعات تقدّمية لأقليات أخرى، دفعت سياسيين أمريكيين من الحزب الديمقراطي لتبني مطلب وقف الإبادة في غزة ووقف الدعم غير المشروط لـ "إسرائيل" وهو مطلب كان يعد من المستحيلات في النقاش السياسي الأميركي قبل أشهر قليلة.
هذا الحراك المتعاظم يثبت أسوأ مخاوف المطبخ السياسي الأمريكي التقليدي الذي يعتبر دعم "إسرائيل" غير المشروط أحد أعمدة السياسة الداخلية الأمريكية
وقد حاول أباطرة السياسة في الحزب الديمقراطي التقليل من أهمية التغيير الاستراتيجي الحاصل في الرأي العام الأميركي الذي يطالب غالبيته الآن بوقف الحرب ومحاسبة "إسرائيل"، حيث حاول هؤلاء الادّعاء بأن استطلاعات الرأي التي تظهر انخفاضًا كبيرًا في شعبية بايدن وحزبه عشيّة انتخابات مصيرية في تشرين ثاني/ نوفمبر القادم. وحاول هؤلاء القول إن خطر فوز ترامب سيوحّد الناخبين الشباب والتقدميين، وعندما ازدادت وتيرة الاحتجاجات وبدأت هذه الكتلة الوازنة بفرض حضورها في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، حاول الديمقراطيون التقليديون مهاجمة دوافع المعارضة المتنامية في قاعدتهم الشعبية وتحميلها بشكل مسبق إمكانية الفشل الانتخابي. لكن حالة الإنكار العميقة هذه لن تنجح في إخفاء التحولات الجذرية التي تتشكل الآن في الجامعات والرأي العام الأميركي الشاب رغم القمع البوليسي الكبير واعتقال أكثر من 500 طالب وأكاديمي حتى الآن. هذا الحراك المتعاظم يثبت أسوأ مخاوف المطبخ السياسي الأمريكي التقليدي الذي يعتبر دعم "إسرائيل" غير المشروط أحد أعمدة السياسة الداخلية الأمريكية.
نحن بصدد تحول إستراتيجي في أهميّته، ونقلة نوعية في الموقف الشعبي الأميركي من القضية الفلسطينية ستفرض نفسها على مفاهيم وآليات صنع السياسة الأمريكية في السنوات والدورات الانتخابية القادمة. لكن نجاح هذه الثورة نقية المنطلقات يعتمد على استمرار الزخم والدعم الشعبي من جهة، وعدم تدخل الجهات الخارجية وتحديدًا الفلسطينية من جهة أخرى. هذا حراكٌ ينطلق من إيمان عميق بمبادئ المساواة والحرية وتقرير المصير، وهو داعم للشعب الفلسطيني وقضيّته وليس للفصائل الفلسطينية. ويجمع غالبية منتسبيه على رفض هجمات 7 أكتوبر وأخذ الرهائن من المدنيين استنادًا لذات المبادئ التي ينطلق منها دعمه لفلسطين.
في كل الحالات، فإن هذا الحراك التاريخي الذي تتطور فصوله أمامنا، إنجازٌ تاريخي للقضية الفلسطينية وسيفرض تغييرات مهمة على السياسيين الأميركيين الذين يريدون النجاح في الانتخابات، ولن يتمكنوا من ذلك إذا ما استمروا بتبني المواقف التقليدية السابقة من "إسرائيل". إنها مفارقة لافتة وصفحة جديدة من تاريخ كتبه ويكتبه جيل من الشباب أدرك أهميّة وقوّة صوته وقدرته على صناعة التاريخ إذا ما اختار ذلك.