قبل تنحي مبارك عن منصبه في شباط/فبراير 2011 بأيّام قليلة، نُشر كاريكاتير في صحيفة القدس يقارن بين مبارك وعبد الناصر، وكان رسام الكاريكاتير وقتها قد قسم رسمته إلى مربعين، واحدٌ رسم فيه عبد الناصر مرفقًا بعبارة "قررت أن أتنحى" اقتباسًا من خطاب التنحي بعد هزيمة 67، بينما أرفق مع رسم مبارك عبارة "قررت أتنّح"، والتناحة كلمة عامية دارجة، وتعني الاستمرار في الفعل رغم عدم جدواه، ورغم مطالبة من حولك بالتوقف عنه.
لقد أحبّت الشعوب خطابات الزعماء، التي قيلت باسمها، ونسيت أن تحاسبهم على أفعال اقترفوها بحقّها.. لماذا تفعل الشعوب ذلك؟!
المهم أنني احتفظت بالكاريكاتير لفترة من الزمن، ورغم عدم انبهاري يومًا بعبد الناصر، إلّا أنني قصصته من الصحيفة. وكم ألوم نفسي على ذلك الآن! فعبد الناصر أيضًا "تنّح" ولكن بطريقة عبقرية، فبعد نكسة حزيران كانت الأجواء ملائمة لإحداث تغييرات سياسية، وكان حزن الشعب وخيبة أمله قابلان للاشتعال والتوجيه بما قد لا يعجب عبد الناصر، فمسك الرئيس المحنّك الشعب من يده التي توجعه.. حُبّهم له، وخرج معلنًا استقالته، وهو يعرف مسبقًا أنّ إعلان رغبته بالتنحي ستشفع له خسارته، بل وستعيد شعبيته التي خفتت بسبب الهزيمة، وهكذا كان.
اقرأ/ي أيضًا: عندما يكون خطاب اللحظة الفارقة خطاب مهزومين
الكثيرون أحبّوا ياسر عرفات لأنّه بسيط ويجيد التحدث بلغتهم، والبعض أحبّوا القذافي ليس لأنّه يقول نكاتًا جيّدة، بل لأنّه يشتم القمم العربية ويسخر منها مثلما يفعلون، وآخرون ما زالوا يمجّدون صدام حسين، لأنّه مثلهم كره أمريكا وكرهته أمريكا وهذا يكفي بالنسبة لهم ليكون بطلًا. هؤلاء الزعماء وغيرهم كان ظهورهم على الشاشة "يرد الروح" بالنسبة للكثيرين، لقد أحبّت الشعوب خطاباتهم التي قيلت باسمها، ونسيت أن تحاسبهم على أفعال اقترفوها بحقِّها، أو على الأقل لم تحاسبهم على الأمل الذي غرسوه بسهولة ودون اكتراث في قلوبهم. لماذا تفعل الشعوب ذلك؟!
ليس هناك جوابٌ مقنع لهذا، غير أنّه يمكن القول إن العلاقات بين الشعوب ورؤسائها مثل علاقات الحب بين المراهقين، ما تزال رهينة الأغاني الرومانسية التي يعد فيها العاشق حبيبته بجلب القمر وهي تفرح به، ولكنّها لا تحاسبه لاحقًا عندما لا يحضر لها القمر ولا تسائله حتى إذا كان قد حاول فعل ذلك، ولا تغضب لأنّه قال لها كلامًا لا يستطيع تحقيقه. ستبدو مجنونة إذا فعلت ذلك!
إننا نعيش داخل حكايات الشاطر حسن والفارس النبيل وما إلى ذلك من حكايات، رجلٌ شجاع ذو يد غليظة.. حنون يجيد كلام الحب، هذه هي الصورة الدراجة لدينا عن الرئيس الذي سيحُلُّ مشاكلنا، حتى لو كانت هذه الشجاعة والحنان مجرّد خطاب نعرف جيدًا أنّه غير واقعيّ. ولا يمكن وضعه ضمن جدول زمنيّ يضمن تحقيقه.
اقرأ/ي أيضًا: كأنّ لي لسانًا مقطوعًا
خيبة الأمل بالرؤساء لم تُعلّمنا أن نستبدلهم، بل خفّضت من سقف مطالبنا، فبات على الرئيس أن يعبّر عن غضبنا فقط، لا أن يجد حلًا له، ونسينا أنّ الرئيس موظف من موظفي الدولة، وعليه تأدية عمله وإلّا فيجب محاسبته، وأننا لسنا مدينين له بالطاعة والولاء إذا هو تحدث عن مشاكلنا أو عبّر عن مطالبنا، فهذا هو عمله.
نعم خدعتنا الخطابات المليئة بقيم الحرية والعدالة والكرامة، بل وصفّقنا للكثير من الزعماء وأحببناهم، لأنهم أكدوا عليها في خطاباتهم المتلفزة الموجّهة للعالم، رغم أننا نعرف أن سياساتهم الداخلية مع شعوبهم بعيدة كل البعد عن هذه القيم.
لقد استمتعنا بهذه الخطابات وهي تهدد دولة الاحتلال الإسرائيلي وحلفائها بنا كشعوب قوية حرّة لا تتنازل عن حقوقها، ونسينا أننا لسنا أحرارًا أبدًا، بل مهددون دائمًا بالاعتقال السياسيّ، وأننا قد نتعرّض للضرب خلال المظاهرات، وأننا قد لا نحصل على وظيفة حكوميّة بسبب انتمائنا السياسيّ. ورغم أننا نعرف ذلك ونعيش أكثر منه، إلا أننا ما زلنا نفرح عندما نُذكر في منابر العالم بوصفنا شعوبًا حرّة.
شاهدت مقابلة تلفزيونية لعمرو موسى يتحدث فيها عن أسباب استيراد جمال عبد الناصر لطعامه من سويسرا. استمعت لخطاب الرئيس محمود عباس بالأمم المتحدة وقرأت التعليقات عليه. رأيت صديقًا يضع صورة صدام حسين حاملًا بندقيّته كصورة شخصية لحسابه. تذكرت شيخًا أفتى بحرمة الخوض في حياة الرؤساء الذين ماتوا. أعدت الاستماع مرّات لكلمة السيسي حول "التعايش الفلسطيني الإسرائيلي" لأتأكد من أنّه قال "سلامة وأمن المواطن الإسرائيلي جنبًا إلى جنب مع سلامة وأمن المواطن الإسرائيلي"، وانتبهت إلى أنّ وجهه أحمرّ، وأنه يفتعل شجاعة الخروج عن النص. وفكّرت في أمن وسلامة المواطن المصري.. وهكذا كتبت.
اقرأ/ي أيضًا:
في بيوت العزاء: القهوة راسخة والحلويات تتغير!