بعد أكثر من ستة عقود على إلزامهم بالخدمة العسكرية الإجبارية في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتبني قطاع لا يستهان بحجمه منهم للهوية الإسرائيلية والانتماء لمؤسستها العسكرية، لم يُـسّـلِّـم أبناء الطائفة الدرزية في فلسطين بالأمر الواقع، فأطلقوا حراكًا مناهضًا للتجنيد الإجباري قبل نحو عامين، عرف باسم حراك "ارفض شعبك بـيحميك". حراك هو الأول من نوعه بهذا الحجم، يتحدى المؤسسة الإسرائيلية محاولاً ضرب ما تمكنت من تحقيقه تراكميًّا على مر السنين من أسرلة لأبناء الطائفة الدرزية وتفرقتهم عن باقي شعبهم العربي الفلسطيني.
لن تكون المهمة الإسرائيلية سهلة بعد اليوم، خاصة في ظل عصر يتسم بتفتح الوعي القومي لدى الفلسطينين داخل الخط الأخضر
من التاريخ
الدرزية طائفة دينية، يعيش المنتمون لها في مناطق مختلفة من بلاد الشام، ومن بينها فلسطين، والتي بلغ تعدادهم فيها عام 2014 نحو 134 ألفًا، يعيش جميعهم داخل الخط الأخضر، أي في الـ78% من فلسطين التي أقيمت عليها دولة إسرائيل ونالت الاعتراف الدولي، ويسكنون قراهم في قمم الجبال في المناطق الشمالية لفلسطين الانتدابية.
لم تتعرض القرى والتجمعات الدرزية للتهجير القسري الإسرائيلي في نكبة 1948 كما باقي القرى العربية، التي دمر منها 531 قرية، وهجر أكثر من 800 ألف من سكانها. كما لم يهجر أبناء الطائفة الدرزية من ديارهم. وتسجل مراجع تاريخية عديدة أن أعدادًا لا بأس بها من الدروز كانت قد انضمت لوحدة الأقليات في الجيش الإسرائيلي تطوعيًّا، قبل أن يفرض التجنيد الإجباري على أبناء الطائفة عام 1956، والذي جوبه بمعارضة البعض، وتأييد البعض الآخر من أبناء الطائفة.
كما اعترفت السلطات الإسرائيلية بالدرزية كـ"أقلية قومية" عام 1957، وأقرت مناهج تعليمية خاصة بالطائفة الدرزية عام 1976، وهي مختلفة تمامًا عن المناهج الخاصة بباقي العرب الفلسطينيين في الداخل، وهو ما يراه بعض أبناء الطائفة جزءًا من سياسة "فرق تسد"، كما يصفونها، والتي تهدف إلى عزلهم عن محيطهم العربي، وتذويب "هويتهم الفلسطينية".
صراع الهوية
عربي فلسطيني درزي، أم إسرائيلي درزي؟! هو سؤال كان وما يزال يثير جدلاً بين أبناء الطائفة باختلاف ولاءاتهم ومشاربهم الفكرية. تقول الناشطة في الحراك الرافض للتجنيد هداية كيوف: "علموني في المدرسة أنني درزية إسرائيلية! رغم أننا عرب، وثقافتنا عربية". وترى الناشطة كيوف أن تلك السياسة "تهدف إلى خلق هوية درزية متمايزة لفصل الدروز عن هويتهم العربية الفلسطينية الأصيلة".
كما للشاب يامن زيدان قصة فريدة من نوعها، فقد نشأ زيدان في عائلة إسرائيلية الولاء، وكان والده ضابطًا كبيرًا في الشرطة الإسرائيلية، وقتل له أكثر من أخ في معارك جيش الاحتلال في جنوب لبنان قبل تحريره، يقول زيدان: "هكذا ترعرعت، وهكذا علموني، فماذا تتوقعون أن أكون؟!". وعلى نهج عائلته، عمل زيدان سجانًا في سجن إسرائيلي يحتجز فيه أبناء المقاومة الفلسطينية، لكن احتكاكه بالأسرى الفلسطينيين مع مرور السنوات ولّد لديه أسئلة عديدة عن حقيقة هويته. يقول يامن "بدأت بالبحث عن الحقيقة، أسأل هنا وهناك وأطالع الكتب والمراجع"، ويضيف: "اكتشفت فلسطينيتي أثناء عملي كسجان! وهناك انقلبت حياتي". اليوم، بات زيدان ناشطًا فذًا في الحراك الرافض للتجنيد، ومحاميًا نشطًا مدافعًا عن قضايا الأسرى الفلسطينيين.
الرافضون.. أعدادٌ متزايدة
بحسب القانون الإسرائيلي، فإن "كل من لا يكمل فترة خدمته العسكرية المفروضة عليه قانوناً، يتوقع سجنه مدة سنتين، ومن يتهرّب من الخدمة قصدًا، يتوقع سجنه مدة خمس سنوات كحد أقصى". إلا أن تلك العقوبة لم تمنع أعداداً جيدة من أبناء الطائفة الدرزية من رفضهم للتجنيد، بل وتمزيق أوامر التجنيد علناً في الساحات العامة، كالناشط البارز عمر سعد، الذي سجن مدة تجاوزت 150 يوماً، دون أن يرضخ، وغيره الكثيرون.
في حين، تنخرط أعدادٌ أخرى في صفوف الجيش تجنبًا لعقوبة السجن، إذ يسعى الرافضون منهم دائمًا إلى تأدية خدمتهم الإلزامية بعيدًا عن المناطق الفلسطينية، تجنبًا لإيذاء "أبناء شعبهم". في حين، تؤدي فئة أخرى خدمتها سعيًا للحصول على الامتيازات والتسهيلات الاجتماعية المختلفة التي تروج لها السلطات الإسرائيلية باستمرار. ومما لا شك فيه، أن أعداداً أخرى ما تزال تؤدي الخدمة العسكرية عن رغبة وقناعة تامة، بل وتفاخر بذلك علنا دون أن تجد في ذلك أمراً خاطئاً.
يحاول حراك "ارفض شعبك بيحميك" الرافض للتجنيد تكثيف انخراطه في النضال الفلسطيني في مختلف المناطق الفلسطينية
"أعط الدولة لتعطيك"، هو الشعار الذي رفعته الدولة العبرية عند فرضها للتجنيد الإلزامي على الدروز، بالتعاون مع بعض المتعاونين مع إسرائيل من القيادة الدينية للطائفة. وتنفي السلطات الإسرائيلية باستمرار أن يكون لفرض الخدمة العسكرية أي أهداف أخرى غير "المساواة في تحمل العبء" بين مواطني الدولة. وتذكر السلطات الإسرائيلية على الدوام أن نسبة المواليين لدولة إسرائيل من الدروز هم الأغلبية، وتفاخر بتفانيهم في خدمتهم العسكرية. في حين، يقول الناشطون الدروز أن الرافضين للتجنيد باتوا هم الأغلبية، وأن الوعي الوطني في تصاعد مستمر لكن أضواء الإعلام لا تٌـسلط عليهم، دون وجود إحصاءات دقيقة تفصل بين القولين.
ورغم ذلك، يستمر نحو 40 ناشطاً وناشطة بعملهم الدؤوب في حملة رفض التجنيد الإلزامي، والتي تهدف إلى توسيع قاعدة الرافضين/ات، من خلال نشاطات توعوية عديدة، وبث مواد مرئية ومسموعة عبر وسائل الإعلام البديلة بين حين وآخر، بالإضافة إلى تنظيم تظاهرات أمام مراكز التجنيد، وأماكن توقيف رافضي التجنيد كسجن "عتليت" الإسرائيلي.
عن الصورة النمطية للدروز
في واقع الأمر، عندما تتلفظ بكلمة "درزي" في بلدة فلسطينية في الضفة الغربية أو قطاع غزة، فغالبا ما تخطر ببال الفلسطينيين صورة لمجند بزي الجيش الإسرائيلي، ينفذ سياسات الاحتلال بصورة "أكثر عنفاً وقسوة" من الجنود الإسرائيليين ويتحدث العربية بلهجة الأقحاح الصحيحة.
لقد باتت تلك هي الصورة النمطية السائدة للدرزي في المجتمع الفلسطيني، وهي صورة تتعزز يوماً بعد آخر، خاصة مع الانفصال الجغرافي الاجتماعي الذي يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة عن أقرانهم داخل إسرائيل، فاحتكاكهم شبه معدوم نتيجة للحواجز الإسرائيلية والجدار الفاصل. ولا نبالغ إذا قلنا أن فلسطينيي الضفة الغربية قد يلتقون بدرزي مرة في حياتهم، وغالباً ما تكون خلال اقتحام عسكري إسرائيلي لبلدة فلسطينية.
وفي ظل ذلك، تلعب وسائل الإعلام العبرية الناطقة باللغة العربية دوراً ذا أثر بارز في هذا المجال، فدائماً ما يعرض الجنود الدروز أثناء ارتدائهم الزي العسكري الإسرائيلي مبدين ولاءهم التام للدولة، كما ويسلط الضوء باستمرار على القدرات القتالية للدروز، وبطولات "وحدة مقاتلي السيف" الدرزية، وعرض تفانيهم في الخدمة العسكرية، وهو ما يولد غضباً لدى الفلسطينيين، ويعزز تلك الصورة النمطية التي لا يعرف الفلسطيني غيرها عن ابن الطائفة الدرزية.
ولهذا، يحاول حراك "ارفض شعبك بيحميك" الرافض للتجنيد تكثيف انخراطه في النضال الفلسطيني في مختلف المناطق، كالمشاركة في التظاهرات والمناسبات الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، وتنظيم جلسات توعوية، علها تعطي صورة مغايرة عن العربي الدرزي عما هو شائع.
تجنيد المسيحيين.. محاولة أخرى على سلم الطائفية
يزداد عدد الشباب الدروز ممن يدفعون ثمن موقفهم القومي الحر عبر مطاردتهم وزجهم في سجون الاحتلال
إن أحد أبرز عوامل نجاح السلطات الإسرائيلية في مهمتها في مجتمع الطائفة الدرزية هو نسبة الأمية الساحقة التي كانت سائدة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. لكن اليوم، فالأمر مختلف. لكن واستغلالا لحالة الشحن الطائفي في المنطقة العربية، وفي محاولة جديدة مضت بها المؤسسة الإسرائيلية بين عامي 2012 و2013 لبحث التجنيد الإلزامي للمسيحيين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، إلا أنها جوبهت برفض وغضب ساد الأغلبية الساحقة من المسيحيين، وخرج المئات منهم في تظاهرات جماهيرية في مختلف المناطق، حتى تمكنوا من تثبيط الخطة الإسرائيلية، مرحلياً على الأقل، ليكتب الفشل الذريع لتلك المحاولة ولبعض المتعاونين معها من رجال دين.
ومع استمرار الإعلام العبري بتسليط الضوء على مسيحيين التحقوا بصفوف الجيش الإسرائيلي طواعية، رغم أنهم لا يمثلون إلا حالات فردية استثنائية، كانت أشهرهم الشابة موناليزا عبده، إلا أن "صهر الوعي" لن يكون بالأمر السهل كما يراه المسيحيون العرب، ولن تكون المهمة الإسرائيلية سهلة بعد اليوم، خاصة في ظل عصر يتسم بتفتح الوعي القومي لدى الفلسطينين داخل الخط الأخضر وبثورة في عالم الاتصالات، وهو ما يكرسه الناشطون لخدمة حراكهم المتصاعد وبث رسائلهم التوعوية.
نضالات متراكمة
وفي إطار ذكر حالة تنامي الوعي القومي الرافض لإسرائيل ككل، وللخدمة في جيشها المحتل، يذكر تصاعد التيار الوطني القومي العروبي بين الدروز، والذي شهد أفضل أطواره مع تنامي حجم وتأثير التيارات والأحزاب القومية العروبية، وكذلك تأسيس "ميثاق المعروفيين الأحرار"، ما لعب دوراً أساسياً في تغذية نضال الشباب الرافضين للتجنيد في جيش الاحتلال، الذين يزداد عددهم، ويزداد معه عدد من يدفعون ثمن موقفهم القومي الحر عبر مطاردتهم وزجهم في سجون الاحتلال، فقط لأنهم يقفون في خندق شعبهم ضد المشروع الصهيوني.